النظرة القصيرة وحدها هي التي تشيع الخوف من نجاح التيار السلفي في الانتخابات الأخيرة وظهوره اللافت في أول مشاركة سياسية حقيقية له ، والنظرة القصيرة وحدها هي التي ترى في هذا الظهور والنجاح أزمة للديمقراطية أو خطرا عليها ، ولو نظرنا بأفق أبعد من تحت أقدامنا لأيقنا أن الحضور السلفي في الانتخابات تطور إيجابي للغاية للحياة السياسية المصرية ، بل إن الحضور السلفي في قلب المشهد السياسي والبرلماني والحكومي من شأنه أن يفكك عقدا طال استخدامها لتعطيل المسار الديمقراطي ويذيب مخاوف طالما استخدمها النظام السابق وحفنة منتفعة من وجوده لصرف أشواق المصريين إلى الديمقراطية . التيار السلفي في مصر له قاعدة شعبية تقدر بالملايين في مختلف أنحاء البلاد ، وهو القوة الشعبية الأضخم بدون منازع ، وقد وضح ذلك بشكل حاسم في أكثر من مشهد سياسي ، سواء كان الاستفتاء الدستوري أو مليونية 29 يوليو الشهيرة أو في الانتخابات الأخيرة ، ولا يوجد حزب في مصر أو تيار سياسي يملك نصف ولا ربع هذا الحضور الشعبي ، والديمقراطية بما أنها حراك شعبي في الأساس ومشاركة شعبية ، فكان من الحتمي والضروري أن يتم استيعاب هذه القوة في إطار سياسي وديمقراطي سلمي وآمن من أجل نجاح المشروع الديمقراطي الجديد ، لأن البديل هو أن تلقي بهؤلاء الملايين من المواطنين في البحر مثلا ، أو تنفيهم خارج البلاد ، وأي خطوة أخرى غير استيعابهم هي بالقطع ستكون ضد الديمقراطية ، بل إن المشروع الديمقراطي كله من شأنه أن يكون أملا معلقا وغير قابل للتنفيذ طالما كنت غير قادر على استيعاب هؤلاء أو تفكر في نفيهم من الحياة السياسية أو تعتقد أن بإمكانك أن تسقطهم من الحساب السياسي . التجربة الديمقراطية الحالية نجحت بامتياز في "احتواء" الحالة السلفية وبسرعة مدهشة ، لدرجة أن هناك الآن أكثر من ستة أحزاب سلفية معظمها حصل على ترخيص قانوني بالفعل ، وهو ما يعني أن هناك حماسة سلفية للمشاركة السياسية ، والكسالى الذين لا يبذلون الجهد الكافي لفهم وتفهم طبيعة الحركة السلفية لا يدركون معنى هذا التحول "الخطير" بعد أن كان السلفيون قبل سنة واحدة ينبذون السياسة والديمقراطية والبرلمان وينظرون بعدوانية تجاه الأحزاب والإعلام والمعارضة والحكومة معا ، وينظرون لحرمة المشاركة ابتداء ، بناءا على خبرات سيئة سابقة ، الآن حدث "تجريف" واضح في تلك البنية الفكرية الصلبة ، وبدأ السلفيون ينفتحون تدريجيا على القوى السياسية المختلفة والإعلام والمجتمع المدني ، لم يكن أحد يتصور قبل سنة واحدة أن يقدم السلفيون مرشحين نساء على مقاعد البرلمان ، لو ذكر هذا الكلام لأحد قبل عام لاعتبره ضربا من الخيال الواسع ، الآن أصبح ممكنا . هناك خشونة ملحوظة في الخطاب السلفي ، لانعزاله عن الحراك السياسي سنوات طويلة وتجاهله طويلا من قبل القوى المدنية الأخرى ، ولكن لاينبغي أن تجعلنا مثل هذه الملاحظات "الصغيرة" نتخذ موقفا سلبيا أو عدوانيا من هذا التيار الكبير ، خاصة وأن الحراك السياسي يضع بصمته كل يوم عليه ويؤثر فيه بوضوح ، وقد تفاجأ بعض القوى اليسارية أو الليبرالية بعد وقت قصير أن أقرب حلفائها في مواقف سياسية عديدة هم هؤلاء الذين كانوا يتصورن أنهم "البعبع" أو الخطر الداهم على الديمقراطية . [email protected]