وجاءت اللحظة الفاصلة لتؤكد طموح كل الطامحين للديمقراطية الحقيقية بتعديل المادة 76 الشهيرة ومن هنا تجسدت حقيقة هامة في الوجدان المجتمعي المصري وهي أنه في استطاعته اختيار رئيسه عبر أكثر من مرشح شرط تمتعه بالحدود القانونية لقواعد الترشيح لهذا المنصب الرفيع. ولذلك كان تعديل هذه المادة صفعه لنظم سياسية أحادية تحت دعوة إعطاء طابع الاستقرار للسلطة السياسية في أوقات الطواري والأزمات فمن الذي قال ان وجود نائب للرئيس يمنع مثل هذه الطواري أو الأزمات، الأمر الآخر هل وجود نائب للرئيس يمنع مثل هذه الظواهر أو الأزمات وهو الذي كان طوال العقود الثلاثة التي تلت 1952 لم تكن له صلاحيات حقيقية. كعادتها فتحت نهضة مصر في عددها الأسبوعي الخميس الماضي ملفاً عن حديث الساعة وهو " نائب للرئيس. هل أصبح ضرورة حتمية" استطلعت فيه رموز السياسة والأحزاب والقانونيين والبرلمانيين، ولحيوية هذا الموضوع وأهميته خاصة في ظل الحراك السياسي الحادث في مصر الآن، وأن هذه القضية تثار من فترة لأخري.. نري أنه لابد من ربط هذه القضية بقضية أخري وهي التوريث. فتثار منذ فترة ليست بالقصيرة قضية فراغ منصب نائب الرئيس وتجتهد أقلام ورؤي الباحثين والسياسيين والأكاديميين في رسم صورة الوضع السياسي في حالة غياب الرئيس مبارك لأي سبب وقد اجتهدت رؤي بعض الباحثين من تيارات سياسية متباينة وخلصت إلي أن غياب الرئيس مبارك عن الحكم لأي سبب سوف يؤدي إلي فراغ سياسي. وأن القوي السياسية الموجودة علي الساحة الآن غير مؤهلة لملء هذا الفراغ باستثناء القوات المسلحة. وهنا يجب بل من الحتمي مناقشة هذه القضية من منظور تفعيل قيم الديمقراطية وتداول السلطة من خلال الآليات الدستورية والقانونية. فالديمقراطية باديء ذي بدء ترتكز علي الحوار الصريح والإقناع والسعي إلي حلول وسط والتأكيد الديمقراطي علي الحوار لا يفترض فحسب وجود اختلافات في الآراء والمصالح بشأن معظم مسائل السياسة ولكن يفترض أيضا أن لهذه الاختلافات الحق في أن يعبر عنها وأن يستمع إليها. وهكذا تفترض الديمقراطية الاختلاف والتعدد داخل المجتمع وعندما يجد هذا الاختلاف تعبيراً عنه يكون الأسلوب الديمقراطي لحل الخلافات هو بالأحري المناقشة والإقناع والحلول الوسط. ان الديمقراطية كثيراً ما صورت تصويراً كاريكاتيريا خاصة من افول الاستبداد والديكتاتورية علي أنها مجرد متاجر للكلام بيد أن الامكانات التي تهيؤها للنقاش العام ينبغي أن ينظر إليها علي أنها ميزة لاعيب فذلك النقاش هو أفضل وسيلة لضمان القبول للسياسات ولا يتعارض بالضرورة مع اتخاذ تدابير حازمة فالنقاش المفتوح بوصفه الأسلوب المتناسب للتعبير عن الخلافات المجتمعية وحلها لا يمكن أن يجري بدون الحريات المنصوص عليها في مواثيق الحقوق المدنية والسياسية.. كالحق في حرية التعبير ويمكن الاعتماد علي الديمقراطية لحماية هذه الحقوق طالما أنها أساسية لبقائها في ذاتها. وهذه الحقوق تتيح التنمية الشخصية للإفراد وتتيح قرارات جماعية أصلح بالنظر إلي اتخاذها في ضوء مجموعة مختلفة من الحجج والآراء فهي بذلك أي الديمقراطية تسمح بتجديد قوي المجتمع. فالنظم الديمقراطية بتوفيرها امكانات الاستبعاد الروتيني والهادي للسياسات والسياسيين الذين فشلوا أو لم يعد لهم نفع بوسعها أن تؤمن التجديد المجتمعي والإجيالي بدون حدوث ما يصاحب هذا الابعاد اضطراب في الحكم ولا يتم تفعيل قيم الديمقراطية إلا من خلال تدعيم فلسفة القانون، أي "حكم القانون" أي أن قاعدة الديمقراطية هي المسائلة القانونية والسياسية وذلك عبر الدستور والقانون, فسيادة القانون تجسد المبدأ القاضي بأن يعمل الجميع في إطار القانون والدستور علي أساس السلطات المخولة لهم والمحددة قانوناً. ومن هنا تأتي القضية التي تشغل بال العديد من القوي السياسية وهي عدم وجود نائب لرئيس أو احتمالية للفوضي بعد غياب الرئيس مبارك وبنظرة بسيطة وسريعة تكتشف أن مصر منذ دستور 1956 وحتي 1981 التزم نظامها السياسي بتعيين نائب لرئيس الجمهورية طبقاً لحقوقه الدستورية والتي لا تلزم الرئيس بذلك بل تمنحه صلاحية وجوبها أو جوازها والتزام النظام حتي 1981 باختيار الوجوب فكان نائب الرئيس ملازما للرئيس. حتي جاء عام 1981 وحتي الآن لم نر نائبا للرئيس وثارت مناقشات عديدة في تلك السنوات. وكان صاحب هذا المقال من أنصار عدم تعيين نائب لرئيس الجمهورية إذا كنا بالفعل ننشد نظاما ومجتمعا ديمقراطيا. أما من يروجون الضرورات الوهمية التي تفرض وجود نائب لرئيس هم أول من يقننون مبدأ التوريث رغم شعاراتهم عن الديمقراطية ونظام سياسي ينشد التعددية السياسية أن ينمو ويتفاعل مع ما يسمي بالتوريث المؤسساتي وكيف لديمقراطية تحمي بالدستور والقانون أن تخترق هذا القانون وتتعدي علي الدستور الذي يحدد آليات انتقال السلطة بشكل سلمي وعبر انتخابات حرة مباشرة بين عدد من الأحزاب السياسية الشرعية التي يتوفر بها المقومات والآليات التي حددها القانون. وبالتالي فإن عدم تعيين نائب لرئيس الجمهورية يتيح لنشر ثقافة ديمقراطية جديدة تتناسب وتتلاءم مع الحراكات والتفاعلات السياسية التي يشهدها الواقع المصري الآن خلال العامين الماضيين. وبالتالي فمن يروجون لقضية أهمية تعيين نائب لرئيس الجمهورية ويتصورن حالات الفوضي بعد غياب الرئيس مبارك لا ترتقي مفاهيمهم لمجتمع ديمقراطي ولا لنظام سياسي تقدمي وتعددي وإنما مازالت مفاهيمهم أسيرة الأفكار الأحادية القائمة علي اختيار واحد من اثنين، فلكي نتفادي موضوع التوريث سواء كان حقيقيا أم وهميا فأنهم يستبدلونه بتوريث من نوع آخر اعتادوه وفضلوه ولا يمكن لمثل هذه المفاهيم أن تتواءم مع التغيرات الهيكلية التي تحدث في مصر الآن علي الصعيد السياسي فتداول السلطة أو فراغها لاتحكمه إلا الديمقراطية والقانون فلا مجال لانقضاض أو اختزال لهذه الديمقراطية وذلك القانون من خلال كلاشيهات وشبهات في نفوس البعض.