يحصل الناس على حريتهم إذا آثروا الحرية على الحياة.. أما الذين يؤثرون الحرية على الحياة فهم يخسرونهما معا. ولا شيء يصدِّق هذه المقولة مثل الانتخابات الأخيرة في كل من العراق وفلسطين. ففي كل الدول العربية حُرمت الحركات الإسلامية من التعبير الحر عن نفسها ضمن مؤسسات المجتمع الشرعية، وصودرت حريتها في الاختيار وحقها في المشاركة. وإذا سمح لها بذلك فضمن قاعدة ال25% التي أوصى بعض الساسة الغربيين أن يُسمح للإسلاميين بتجاوزها في أي انتخابات. وقد أدى استبعاد الحركات الإسلامية من المنافسة النزيهة على قيادة مجتمعاتها إلى ديمقراطيات كسيحة، تؤصل الاستبداد البغيض، وتضفي عليه طلاء زائفا من الحرية، بينما الواقع يشهد أن لا ديمقراطية ثَمَّ، وأن دولنا محكمومة بمافيا عائيلة وعشائرية جعلتها إقطاعا شخصيا، لا مجتمعا حرا. ولا غرو بعد ذلك أن نرى أبناء الرؤساء وزوجاتهم يوزعون التزكيات والتشهيرات على القوى الوطنية النزيهة وكأنهم يتحدثون عن الخدم والحشم، ويرسمون الخريطة السياسية ويخوضون في مصائر شعوبهم وكأنهم يتحدثون عن أملاك العائلة. وأحسن مثال على أسوإ حالة من ذلك تصريحات جمال مبارك عن الإخوان المسلمين منذ أيام و"الخلاف العائلي" بين آل الصباح حول مصير شعب الكويت الأسبوع المنصرم... أما في العراق وفلسطين حيث حمل الناس سلاحهم من أجل حريتهم، فتجد الأميركيين يتوسلون إلى الإسلاميين سنة وشيعة للمشاركة في الانتخابات، ويتضرعون للإسرائيليين من أجل السماح لحماس بالمشاركة في الانتخابات. وبغض النظر عن الثمرة التي سيجنيها الإسلاميون العراقيون من مشاركتهم، أو تجنيها حماس من فوزها الساحق، فإن جوامع الشبه بين الحالة العراقية والفلسطينية وتميزهما عن وضعنا المتهرئ في الدول العربية الأخرى جديرة بالتأمل هنا. وأهم هذا الشبه أن الإسلامي العراقي والفلسطيني مقاوم يحمل السلاح، ويبذل الدم كل يوم في سبيل حريته. وإذا حمل الناس السلاح في سبيل حريتهم فإن أقل ما ينالون منها حقوق المواطنة الكاملة، بما فيها حق التصويت والترشح والترشيح.. إن للحرية ثمنا، وهو ما تدركه الشعوب الغربية التي بذلت الدم منذ قرنين في سبيل التحرر من الاستبداد (كما في فرنسا) ومن الاستبداد والاستعمار كليهما (كما في الولاياتالمتحدة). ولا يؤمن الغربيون أن الشعوب تنال حريتها مجانا، وهم محقون في ذلك، إذ على ذلك دلت تجربة آبائهم وأجدادهم خلال القرنين السالفين. ولذلك نصت دساتيرهم في ديباجاتها على حق المجتمع في مقاومة الظلم والعسف قبل أن تنص على أي حق من حقوق الإنسان الفردية. فليس من الإنصاف للغربيين أن نطالبهم بإنصافنا دون أن نكون مستعدين لدفع ثمن ذلك الإنصاف مقاومةً ومدافعةً، فثقافتهم التاريخية علمتهم أن من لا يدفع ثمن الحرية لا يستحقها. إن الدرس الذي ينبغي أن تتعلمه الحركات الإسلامية من السماح للإسلاميين في العراق وفلسطين -دون غيرهما من البلدان العربية- بالمشاركة السياسية والفوز الانتخابي.. هو أن رفع سقف التحدي، والاستعداد لدفع ثمن الحرية، شرطان لازمان في بناء أي ديمقراطية نزيهة. فإذا أدرك الحاكم الجائر –وكل حكامنا جائرون- أن للاستبداد ثمنا، وأن الحرية سيتم انتزاعها انتزاعا، فلن يتعامل باستهتار مع اختيار شعبه، ولن يسعى إلى فرض ديمقراطية انتقائية، يفتح أبوابها لمن يشاء، ويوصدها في وجه من يشاء. إن سنة المدافعة من سنن الله في خلقه، وتحقيق المدافعة في نظام المجتمع هي التي تحمي من الفساد والاستبداد: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". فهل نطمع بعد هذه الحكمة القرآنية البليغة أن تنزل عليها الحرية من السماء، أو تتفجر لنا من الأرض؟! ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" في ترجمة الشاعر المتنبي أن المتنبي مدح مرة أحد الملوك بأسلوبه المغالي، فقال: يا من ألوذ به فيما أؤملهُ ** ومن أعوذ به مما أحاذرهُ لا يجبر الناس عما أنت كاسره ** ولا يهيضون عما أنت جابرهُ ثم عقب ابن كثير بأن ابن القيم أخبره أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرأ هذين البيتين في سجوده، ويقول: "لا يصلح هذا لغير الله".. فالوثنية السياسية ضاربة بأطنابها في ثقافتنا، والأصنام البشرية حلت محل الأصنام الحجرية، ولا سبيل لنا سوى التقيد بوصية الشاعر الفيلسوف محمد إقبال في نبذ منهج آرز، واتباع ملة إبراهيم عليه السلام وهو يحطم الأصنام: نحت أصنام آزر ** صنعة العاجز الذليلْ والذي يطلب العلا ** حسبه صنعة الخليلْ لقد آن الأوان لشعوبنا، وللحركات الإسلامية تخصيصا، أن تتحرر من الوثنية السياسية، ومن ثقافة العبودية. فالسادة يدينون لعبيدهم بما في أيديهم من امتيازات. ولو لم يرض بهم العبيد سادة لما سادوا. [email protected]