النجاح في الطب مثلا يستلزم حب هذه المهنة التي تحتاج إلى دراسة مستمرة طويلة والاستمرار في البحث والعمل. وكذلك النجاح في أي مهنة أو تخصص أو حتى عمل بسيط. وكثيرا ما يسألني شباب الأطباء والكثير من الشباب عن الطريق للنجاح وتحقيق الأحلام وكيف يمكن تخطي العقبات الكثيرة التي يمر بها الإنسان في حياته مهما كان تخصصه أو ظروفه أو البلاد التي يعيش فيها. فلا يوجد إنسان يعيش الحياة السعيدة الكاملة على وجه الأرض. فكلنا نمر بلحظات هزيمة وضعف وحزن وكذلك لحظات نصر وقوة وسعادة. ولا يوجد إنسان بدون نقاط ضعف وعيوب، كما أنه لا يوجد إنسان بلا نقاط قوة أو مزايا. الجميع يسعى للنجاح، لكن النصائح لتحقيق النجاح عادة ما تكون مبنية على بعض الحكم والمواعظ أو على تجربة شخصية محدودة تتغير حسب الزمان والمكان والظروف. وقد تكون تجربة شخصية لإنسان في مكان ما وزمان ما، لا تناسب شخص آخر في ظروف مختلفة. لكن في الخمسين عاما الأخيرة ظهرت أبحاث علمية كثيرة تبحث في عوامل النجاح وكيف يحقق الناجحون أحلامهم. واعتمدت هذه الأبحاث على الإحصائيات وعلوم النفس والأعصاب والأساليب العلمية التحليلية لتقليل العوامل الشخصية أو الأهواء والميول والتي قد تؤثر على الاستنتاجات. وفي البداية يجب تعريف ما هو النجاح؟. النجاح ليس فقط جمع بعض المال أو تحقيق بعض الشهرة أو الترقية في وظيفة ما. فكل هذه وسائل لتحقيق شيء أهم. وهو السعادة والطمأنينة. فالبعض يعتبر المال وسيلة لتحقيق السعادة بينما البعض الآخر يحصل على السعادة بالشهرة والجاه. لكن في النهاية كل هذه الأشياء المادية هي مجرد وسائل لتحقيق ما يسمى السعادة والطمأنينة. وهذه الحقيقة يجب توضيحها لأن البعض يضحي بالهدف في سبيل الوسيلة (مثلا يضحي بالسعادة في سبيل المال أو الجاه أو السلطان) رغم أن المنطق يقول عكس ذلك. وللحفاظ على استمرار السعادة لمدة طويلة يحتاج الإنسان إلى الحكمة كي يخطط لمستقبله وكي لا يقوم بعمل حماقات يفقد معها سعادته. فالشاب المتهور يمكن أن يحصل على سعادة مؤقتة بعمل مغامرة أو تعاطي المخدرات، لكن ينتج عن ذلك أن يقضي بقية عمره في تعاسة وحزن يدفع ثمن التهور والحماقة، لأنه لم يكن حكيما بما يكفي للتفكير والتخطيط وعمل حساب المستقبل. وفي تقييم للكثير من سير الشخصيات الناجحة وجد الباحثون أن أهم العوامل لم يكن الظروف أو الذكاء أو المواهب. لكن العامل الأساسي كان المثابرة والصبر والإصرار. وهذا الاستمرار في المحاولة هو ما جعل الأشخاص الناجحين في ما هم فيه من نجاح. وهناك قاعدة في مجال الإبداع والابتكار تقول أن أغلب الاكتشافات لم تتم إلا بعد عشرة سنوات على الأقل من العمل والبحث في مجال الإبتكار أو الإبداع. حتى لو كان هذا العمل بسيط أو معه حالات فشل كثيرة لكن الاستمرار في المحاولة كان السبب الأساسي في الوصول. بينما الكثير من الموهوبين لم يحققوا النجاح المطلوب لأنهم توقفوا عن المحاولة مبكرا أو أصابهم اليأس قبل أن يصلوا إلى هدفهم. وللحفاظ على الإصرار يحتاج الإنسان إلى وضوح للهدف وكما يحتاج إلى بعض الأمل والتفاؤل. والحفاظ على التفاؤل ربما تكون ميزة شخصية أو ربما يحتاج الإنسان إلى بعض الإيمان مع هدف نبيل يشعر أنه يعمل من أجله ليستطيع تحمل المعوقات والنهوض من العثرات والمصاعب التي لابد وسيواجهها حتما مثل كل البشر. يقول المثل: التاريخ يكتبه المتفائلون. وأثبتت الأبحاث أن الإنسان ينجح فيما يحب، وأن حب الشيء هو ما يصنع الموهبة والتميز. فمثلا حين يحب أحدهم التاريخ، سيستمتع بقراءة التاريخ، ويدخل في امتحان التاريخ ليجيب جيدا ويحصل على درجات عالية، مما يجعله يحب التاريخ أكثر ويحصل على تكريم وجوائز أكثر وهكذا. كذلك الرياضة حين يحقق أحدهم بعض النجاح في رياضة ويحب تمرينها فيتقنها فينجح أكثر وهكذا. فتبدأ العجلة في الدوران. وحين يحب أحدهم مهنة يستمتع بالعمل فيها فيصبح العمل غير مجهد بل يتحول إلى متعة. لا يحتاج إلى راحة من عمله بل يستمتع بالتعب فيه ويفكر فيه ليل نهار ويستمتع بمتابعة أخباره وتطوراته تماما مثل من يحب لعب الكرة ويستمتع باللعب وبالتعب في مباراة الكرة كما يستمتع بمتابعة أخبارها وتطوراتها. لكن كيف يحب الإنسان مادة أو وظيفة. في الحقيقة هناك عدة طرق. منها أن يحقق الإنسان نجاحات صغيرة وتتراكم هذه النجاحات فمثلا لو كان هناك شخص ما يريد أن يحب دراسة الرياضيات فعليه أن يذاكرها كثيرا ويحضر بعض الدورات التدريبية فيها. ثم يبدأ بحل بعض الأسئلة السهلة والمتوسطة ويحقق بعض النجاح فيها فيبدأ يستمتع بها وتنفرج أساريره ونفسيته لها فيتزايد النجاح بالتدريج. وهناك طريقة أخرى لحب الشيء وهو الهدف الكبير أو النية. فحين يكون الإنسان له هدف كبير مثل نصرة الوطن أو الدين أو مساعدة البشرية يعتبر وقتها أن التعب والعناء في مذاكرة مادة صعبة أو تحمل المضايقات في العمل هو جزء من التضحيات التي يقدمها البطل في سبيل هدفه العالي السامي. وهذا الأمر يحتاج إلى إيمان وروحانية كما يحتاج إلى يقين في نصر الله. وأغلب الناجحين يحققون نجاحهم بالدخول فيما يسمى حالة الاندماج وهي حالة يكون الإنسان فيها مستمتعا بما يفعل من خطوات ويحافظ على تركيز في الخطوات التي يقوم بها دون أن يشغل نفسه بالاستعجال على النتيجة أو القلق عليها. تماما مثل الذي يجري مسافات طويلة. هو يجري في الطريق لكنه لا ينشغل بالسرعة أو متى يصل، كل ما يفكر فيه هو الخطوة وراء الخطوة. أو مثل الرسام الذي يصنع لوحة كبيرة هو يعيش مع الألوان والخطوط لكن لا يشغل باله كثيرا بمتى سينتهي العمل. لكنه في نفس الوقت يعرف الشكل العام للعمل ويعرف انه سينهيه في وقت محدد لكن لا يقلق على ذلك. فهو يخطط للمستقبل بدون قلق، ويتعلم من الأخطاء السابقة لكن لا يندم عليها ولا يغرق في الندم. هو فقط يستمتع باللحظة الحالية التي يقوم فيها بواجباته ويترك النتيجة على الخالق. ولا يوجد علاقة مباشرة بين النجاح ونسبة الذكاء، رغم أن النجاح يكون أكثر في الأذكياء، لكنه ليس مرتبطا بنسبة الذكاء فهناك عباقرة لكنهم عاشوا طوال عمرهم في فشل وكذلك هناك الكثيرين من متوسطي الذكاء ممن حققوا نجاحات كبيرة في حياتهم العملية والشخصية. وكذلك الظروف المحيطة والمعوقات قد تكون عامل مساعد أكثر من معطل للنجاح. حيث أثبتت الإحصائيات أن النجاح قد يكون أعلى في الأشخاص الذين يمرون بتجارب صعبة عن الأشخاص التي تكون حياتهم مستقرة وسهلة. فالنجاح عادة يتولد بالتحدي والاستجابة للتحدي. فالإنسان حين يتعرض لتحدي إما أن يستسلم وينهار. أو يقاوم ويظهر قدراته ومعدنه ومهاراته. ولذلك نجد الكثير من الناجحين ومن غيروا وجه البشرية كانوا أيتام أو في ظروف صعبة وبائسة. ولكنهم استكشفوا العالم بأنفسهم وتحدوا الواقع ونجحوا في تغييره. والنجاح له أربعة جوانب متكاملة: فهناك النجاح العقلي والمادي في مجال الوظيفة والمال. وهناك النجاح العاطفي مثل العلاقات الأسرية وهناك النجاح الجسدي مثل الصحة الجيدة وهناك النجاح الروحي مثل الإيمان والطمأنينة بمعية الله. والإنسان الناجح هو ما يستطيع الحصول على قدر لا بأس به من هذه العوامل الأربعة. وليس كمن ينجح في المال ويفشل في الأسرة أو كمن ينجح في العواطف ويفقد طمأنينة الإيمان. و قد أثبتت الأبحاث أن الإنسان المتدين يكون أكثر سعادة وطمأنينة من غير المتدين والملحد. وذلك لأن طمأنينة الدين في معية الله. حيث يشعر المتدين بمساندة قوة الله العليا التي تعوضه في وقت الحزن والألم أو تحديات الحياة الشدة وتعطيه الطمأنينة والراحة النفسية. وكذلك أثبتت الأبحاث أن نسبة الاكتئاب تكون أعلى في غير المتدينين وغير المتزوجين. حتى لو كان لديه الكثير من المال والنجاح الوظيفي. كما أن الإيمان يجعل الإنسان مطمئن أن الله سيعوض ما فقده ولو بعد حين وحتما سيكافئه على العمل الصالح والمجهود. و من عوامل السعادة والنجاح اختيار الصحبة المناسبة مثل الأسرة المناسبة التي تقف مع الإنسان وقت الشدة والصحبة الصالحة من زملاء وأصدقاء ومعارف أو مجالس العلم في تتبع العلماء والحكماء والناجحين حيث يجد الإنسان فيها أشخاص يساعدونه على النجاح في المجال ذو الاهتمام المشترك وبالتالي فمن يريد مثلا أن ينجح في مجال الشعر عليه بمصاحبة الشعراء وكذلك من يريد النجاح في الهندسة عليه أن يكون على تواصل مستمر بمن هم مهتمين بنفس المجال ويتحدثون في نفس المواضيع فهذا يؤدي إلى ما يسمى تكامل العقول حيث يستثير هذا الحوار أفكار جديدة ويساعد على الابتكار والتطوير فضلا عن تثبيت العلوم والأفكار. كما أن أسلوب التعامل داخل هذا المجتمع نفسه يطور من مهارات الإنسان في هذا التخصص أو المجال. أما آخر جزئية أثبت العلم دورها في تحقيق النجاح فهي ما يسمى التكامل المعرفي أي أن يكون الإنسان على اطلاع بنواحي أخرى من العلوم غير تخصصه الدقيق وهذا الاطلاع يكون عادة بالقراءة والعلم. وفائدة ذلك أنه يفتح مدارك الإنسان على أفكار جديدة يستطيع الربط بينها والاستفادة منها في حياته الخاصة والعامة وفي مجال عمله فمثلا الطبيب الذي يدرس الفلسفة يكون أكثر حكمة في التعامل مع المرضى والمهندس الذي يدرس التاريخ يكون أقدر على الربط بين البناء وثقافة الشعوب.. إلخ من الروابط. الأبحاث أثبتت العديد من العوامل لتحقيق النجاح. وأغلب هذه العوامل يحققها الإنسان برغبته وإصراره ومثابرته وطريقة تعامله مع الظروف المحيطة وقدرته على التأقلم معها والاستفادة من نقاط قوته وتحسين نقاط ضعفه ومعالجتها.