لعل البعض يتساءل لماذا يتابع الاعلام العربي والمثقفون والكتاب العرب الازمة اليونانية باهتمام بالغ ، والعالم العربي مثقل باعباءه ويرزح تحت صراعات لانهائية داخلية في دول مثل ليبيا والعراق وأخرى تورطت فيها دول من الخارج مثل الحالة اليمنية ، لعل ابسط الاجابات تكمن في انه ليس استخفافا بما يحدث في عالمنا بقدر ما هو اندهاش في نموذج كان ناجحا حتى وقت قريب او على الاقل كان يبدو عليه النجاح في حين انه كان يحمل اختلالات هيكلية جعلته يتأثر بشدة بالأزمة المالية العالمية ، التي اثرت على اقتصاديات عدد من الدول لكن بعضها استطاع ان يعبرها بسلام والأخر مثل اليونان بقي متعثرا . الامر الثاني يتعلق بأوروبا التي تعد الشريك الاقتصادي الاكثر اهمية لعدد من الدول العربية خاصة الدول المتوسطية منها تربطها بها علاقات تعاون وشراكة وثيقة ،اذ يبدو ان هناك فضولا عاما حول تصرف هذه الكتلة الرائدة اقتصاديا في مواضيع مماثلة ودرجة صرامتها ،بالإضافة الى ان الموضوع اليوناني فتح جروحا قديمة فعدد من الدول العربية واجه في التسعينيات من القرن الفارط ازمات اقتصادية ومالية جعلته يلجا الى الاستدانة من المؤسسات النقدية الدولية التي فرضت عليها شروطا قاسية ذات تكلفة اجتماعية باهضة تكبدتها هذه الدول في سبيل الحصول على تلك المساعدات . فالمؤسسات الدولية تتبنى وجهة نظر يمنية متطرفة تتعامل مع اقتصاديات الدول بمنطلق الارقام دون عناية بآثار ذلك على حياة الناس خاصة الشرائح الهشة الفقيرة وهو امر تفطنت له لاحقا هذه المؤسسات وحاولت علاجه من خلال وضع برامج للحماية الاجتماعية بتوفير شبكات امان للفئات الفقيرة لكن بقيت تلك الاجراءات في مستوى الحد الادنى وغير كافية . الامر الاخير الذي يفسر هذا الاهتمام هو رهان بعض الاطراف على ان اليونان مهما كان الحل الذي ستقوم بتنفيذه في النهاية ستكون هي الدولة التي تغير السياسات الاوروبية ، فالكل يعلم ان الحكومة اليسارية الجديدة رغم انها رضخت قليلا للشروط التقشفية التي اقترحتها عليها كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي عادت مجددا للجدال بشان مدى جدواها خصوصا وانه لا توجد اثار تحسن على الاقتصاد اليوناني ، من ضمن المراهنين في هذا الاتجاه نجد الحزب اليساري الاسباني وروسيا التي تتابع باهتمام مسار الازمة اليونانية والمفاوضات بشان ديونها . هذا مع العلم ان الأزمة اليونانية لم تحدث فجأة لكن التصعيد الاخير كان بسبب ممانعة الحكومة اليسارية الجديدة لشروط التقشف المتفاوض عليها و التي ادت بها الى اللجوء للاستفتاء الشعبي للنظر في شروط الدائنين هل سيتم قبولها ام لا، والتي انتهت بالتصويت برفض الاغلبية لتلك الشروط ، والسؤال الاكثر الحاحا هو ما هي الخطوة التالية التي تتخذها اليونان بعد التصويت ؟ هناك توقعين اساسين هو ان يؤدي ذلك الى خروج اليونان من منطقة اليورو ، او العودة الى المفاوضات مرة اخرى لكن هذه المرة بموقع تفاوضي اقوى و افضل ، والتوقع الثاني هو الراجح خصوصا في ضوء تصريح رئيس الوزراء الكسيس تسيبراس انه لا يعتبر التصويت بلا في الاستفتاء يعطيه صلاحيات لانفصال البلاد عن اوروبا ، اضافة الى انه ليس من مصلحة اوروبا خروج اليونان من منطقة اليورو من خصوصا اذا كان ذلك سيؤدي الى تشجيع دول تمر بأزمات مشابهة لتسلك نفس النهج . و تظل احد الامور غير الواضحة في الموضوع اليوناني هو تعنت الترويكا الدائنة في شروطها ولماذا لم تقدم الدول الاوروبية الرائدة اقتصاديا مساعدات لليونان او تشطب ديونها بمنتهى البساطة ، علما ان الامر ليس مستحدثا بل قد حدث من قبل مع الشركات التي كانت مهددة بالانهيار في كل من اوروبا وأمريكا حيث تم تقديم مساعدات حكومية من اموال الضرائب للتجاوز اكبر نكبة منيت بها بعد الازمة المالية 2008 ،بالطبع هذا الاجراء لا يمكن اعتباره اجراءا رأسماليا مطلقا فالرأسماليون يؤمنون بان الاقتصاد قادر على التعافي ذاتيا دون دعم لكنه هنا تم خرق هذه القاعدة بهدف تفادي المنظر الكئيب الذي حدث ايام الكساد العظيم ، فلماذا لا يتم التعامل بمرونة مع الدول التي عانت من اثار الازمة المالية العالمية ؟ الامر يعود اولا وأخيرا الى ارادة الدول الدائنة . في النهاية اجد ان الاهتمام بالأزمة اليونانية صحي وفي مكانه فهو يكشف مثالب الرأسمالية المؤسساتية التي يبدو ان كل الجهود نحو انسنتها تواجه عواقب لا يمكن تجاوزها ، خصوصا عندما نعلم ان برامج التقشف المتبعة في اليونان في السنوات الاخيرة ادت الى ارتفاع معدلات البطالة و انكماش الاقتصاد ، هذا اضافة الى الدروس المستفادة من تجاربنا الخاصة بتعاملنا مع هذه المؤسسات .