عندما بدأت أزمة اليورو في أوروبا قبل خمس سنوات، توقع خبراء الاقتصاد فشل إجراءات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي على اليونان وغيرها من الدول التي ضربتها الأزمة، لكن للحقيقة فإن اليونان التزمت بها حرفيا مما أدى إلى فشل الكثير من أوضاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية الأخرى في المقابل. والآن، ومع الانتصار الساحق الذي حققه حزب سيريزا المناهض للتقشف بزعامة أليكسيس تسيبراس، أعلن الناخبون اليونانيون عمليا أنهم نالوا ما فيه الكفاية، وساندهم في ذلك الشعب الإسباني الذي يمر بالمعاناة ذاتها، إذ وقف الإسبان وراء حزب "بوديموس" حتى فاجأ الجميع بفوزه بخمسة مقاعد في انتخابات البرلمان الأوروبي، أملا في الحصول على الحلم ذاته. والسؤال هنا : هل ستنتقل العدوى قريبا إلى البرتغالوإيطالياوفرنسا التي تعاني المشكلة ذاتها وتتقدم هذه الدول الخمس مجتمعة بمطالب مماثلة؟ وفي تلك الحالة، هل ستظل المشكلة كامنة في بعض الدول أم سيؤدي ذلك إلى إعادة النظر في منطقة اليورو بأكملها وسياسات الاتحاد الأوروبي النقدية؟ ربما يكون بوسعنا أن نلوم اليونان على انزلاقها إلى المتاعب لو كانت الدولة الوحيدة التي سجل فيها الدواء الذي وصفته الترويكا هذا الفشل الذريع، ولكن إسبانيا كان لديها فائض وكانت نسبة الدين لديها منخفضة قبل الأزمة، وهي أيضاً تعيش الآن حالة من الكساد، إذن المطلوب الآن ليس الإصلاح الهيكلي داخل اليونان وإسبانيا، بل الإصلاح في منطقة اليورو وتغيير السياسات التي أدت إلى الأداء البالغ الرداءة من قِبَل الاتحاد النقدي. ونظراً لحجم الضائقة الناجمة عن الديون المفرطة، فقد يتساءل المرء لماذا يضع الأفراد والدول أنفسهم في هذا الموقف، فهذه الديون عبارة عن اتفاقات طوعية، أي أن الدائنين مسئولون عنها كالمدينين على حد سواء، بل ويزعم البعض أن الدائنين أكثر مسئولية : فهم يمثلون مؤسسات مالية متطورة ومتمرسة، في حين كثيراً ما يكون المقترضون أقل تناغماً مع تقلبات السوق والمخاطر المرتبطة بالتعاقدات المختلفة، والواقع أن الدائنين يفترسون المقترضين ويستغلون افتقارهم إلى الخبرة المالية بدعوى إعطائهم فرصة لبداية جديدة، لكن الشروط ”غير الإنسانية" لا تساعد حقا في ضمان السداد، ويعود الدائن ليقدم حوافز أكثر حتى ينخدع المدين مجددا تحت وطأة أزمته، لتتكرر المأساة مجددا على مدى السنين. وقد هزت موجات الأزمات الاقتصادية العالمية كيان الاتحاد الأوروبي أكثر من غيره، ومعها اهتز بنيانه ووحدته، فمن آيرلندا إلى إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، إلى قبرص وأخيراً اليونان، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه مرغماً على سد تعثرات الاقتصادات الأوروبية لدوله، والتي تفرض المزيد من التدخل في شئون أعضائه الداخلية، ولا سيما من قبل ألمانيا. وبعد أن كانت بريطانيا الاستثناء الوحيد في النظر إلى الاتحاد الأوروبي بعين الشك والارتياب، أصبحت الآن تأتي بمرتبة متأخرة وراء دول تهدد الاتحاد نتيجة الاستياء الذي أطلقته أزمة اليورو. والخوف الحقيقي هنا أن يؤدي السماح لليونان بإعادة هيكلة ديونها إلى إيقاع نفسها هي وغيرها في المتاعب مرة أخرى. وإذا سمحت أوروبا لهذه الديون بالانتقال من القطاع الخاص إلى القطاع العام فإن أوروبا وليست اليونان هي التي يجب عليها أن تتحمل العواقب. والواقع أن محنة اليونان الحالية، بما في ذلك الارتفاع الهائل في نسبة الدين، راجعة إلى حد كبير إلى إخفاق برامج الترويكا المضللة التي فرضت عليها فرضا. ويتلخص نهج التعامل مع اليونان في أنه إذا كان أداء اليونان طيباً فسوف يحصل الدائنون على قدر أكبر من أموالهم، وإذا كان أداؤها سيئاً فسوف يحصلون على قدر أقل، وبهذا يصبح الحافز لدى الجانبين قوياً لملاحقة السياسات الداعمة للنمو، فإذا رفضت أوروبا طلب الناخبين اليونانيين بتغيير المسار، فإنها بهذا تقول إن الديمقراطية بلا قيمة، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد. ويعني ذلك أن الاتحاد الأوروبي ليس اتحاداً يقوم على تحقيق العدالة بين دوله، وإنما هو اتحاد يستهدف توفير الفرص الاقتصادية والمالية للدول القوية في هذا الاتحاد كي تهيمن على سوق دول منطقة اليورو عبر فتح الحدود والأسواق، مما يجعل اقتصادات الدول الضعيفة فريسة لغزو السلع والشركات الرأسمالية. وإذا كانت الرأسمالية الغربية قد وجدت في استغلال أزمة اليونان وغيرها من الدول فرصة لتحقيق الأرباح التي تعوض من خلالها التراجع الذي أصاب اقتصاداتها، فإن فوز اليسار اليوناني يوجه ضربة قوية لهذه الرأسمالية الغربية ويجعل دولها في وضع مرتبك. ومن هنا، يجد الاتحاد الاوروبي اليوم نفسه أمام خيارات أحلاها مر، وأول هذه الخيارات هو الاستجابة لمطلب الحكومة اليسارية الجديدة وتخفيف القيود المالية الشديدة التي فرضها الكبار على اليونان. وقد تنصاع المؤسسات المالية والحكومات الأوروبية وتدفع ما تريده اليونان، لكن الضرر لن يتوقف عند هذا الحد، فقادة الاتحاد الاوروبي يعرفون أن اليونان إذا أفلتت من التزاماتها المالية المترتبة على مديونيتها والخروج من حالة التقشف والانسحاب من منطقة اليورو وتخفيض قيمة عملتها واستعادة قدرتها التنافسية، فإن دولاً أخرى ستحذو حذوها بكل تأكيد. وإذا كانت منطقة اليورو تتحمل انسحاب بلد مثل اليونان، فإن رحيل اقتصادات أكبر مثل إسبانيا أو إيطاليا سيوجه ضربة إلى العملة الأوروبية لن تشفى من آثارها. فالناخبون في دول مثل فرنساوإيطاليا وإسبانيا يعتبرون أن الأحزاب التقليدية تدافع عن مؤسسات الاتحاد الاوروبي وعملته اليورو، لكنها تتقاعس عن تمثيل مصالح شعوبها، وحتى في المانيا أخذت تصدعات تظهر في صرح النظام السياسي الأوروبي القائم على الاتحاد الاوروبي ومؤسساته. ويظل الأمل فى أن تكون الغَلَبة لأولئك الذين يفهمون اقتصاد الديون والتقشف، والذين يؤمنون بالديمقراطية والقيم الإنسانية، فقد بدأت رياح التحول تهب على البيت الأوروبي.