نعيش اليوم وغدا وبعد غد –إن شاء الله- مع فضيلة العلامة الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- من خلال كتابه (نظرات في القرآن والبالغ عدد صفحاته "232 " في الطابعة الثامنة الصادرة عن دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع في شهر يناير 2008م) والذي أشار في مقدمته إلى أن كتابه هذا هو الكتاب الثامن عشر من سلسلة الكتب التي ألفها في خدمة الإسلام وإبلاغ رسالته، بعد أن جاوز سن الأربعين ببضعة أشهر.. وقد كان الباعث على تأليفه، أن يربط المسلمين بالقرآن، ويردهم إليه ردًّا جميلا، فيفك عُقد الخرافة، ويزيل الإبهام حوله، ويؤكد على ما فيه من حقائق وأحكام ودساتير، وأيضا أن تكون هذه النظرات مقدمة بين يدي تفسير حسن للقرآن الكريم.. تفسير يلائم طريقة عصرنا في الفهم والاستنباط، ويترجم عن روح القرآن نفسه، وخلوه قدر الطاقة من وجوه الإعراب، وفنون البلاغة، وجدل أهل الكلام والفلاسفة.. وقد يسر الله -عز وجل- للشيخ الغزالي -رحمه الله- أن يكتب المحاور الخمسة في القرآن، ثم يختم حياته المباركة بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وكوَّن بذلك مشروعا قيمًا للدراسات القرآنية بصفة عامة. وقد استخدم المؤلف -رحمه الله- المنهج الاستقرائي والمنهج التحليلي، في تأليف هذا الكتاب، وسيجد القارئ في (نظرات في القرآن) جملة معارف حسنة عن القرآن المجيد، تضمنت ثمرات من غراس الأئمة الأقدمين والعلماء المحدثين، وهذه النظرات تمس قضايا دينية واجتماعية تشغل بال المسلمين خاصة، وبال العالم كله.. والقرآن كتاب لا يستطاع عزله عن الحياة أبدا؛ ذلك أنه كتاب الحياة المفعمة بالحركة المتجددة على الدهر.. وإذا كان بعض المفكرين والفلاسفة يحلوا لهم أن يغلقوا على أنفسهم الأبواب، ثم يرسلوا من نوافذهم نظرات شاردة أو صائبة إلى الأفق البعيد، فإن علماء المسلمين ما يستطيعون إيصاد الأبواب بين القرآن وبين العالم المائج بالخير والشر. كيف ووظيفة كتابنا أن يتوسط الميدان ليقيم العدالة ويأذن بمرور مواكبها، وليقمع الهالة ويحبس زبانيتها في نطاق يرد كيدهم. ومن هنا تكاتف ساسة الغرب وتجار الاستعمار على محاربة القرآن بالحيلة والقوة معا.. ألست ترى اللصوص إذا أرادوا سرقة بيت اجتهدوا في تحطيم مصابيحه، أو قطع تيار الكهرباء عنه، حتى إذا عم الظلام وسرت الفوضى، اشتغلوا بالسلب والنهب وهم آمنون!! إن ذلك ما فعلة الغرب وهو يمد يده الآثمة لسرقة العالم الإسلامي.. لقد ركز هجومه على القرآن نفسه؛ ليأتي على الجزء الباقي من استضاءة المسلمين به، حتى إذا أقام حجابا كثيفا بين الأمة المصابة وبين قرآنها خلا له الجو ففعل ما يشاء. صدَّر المؤلف كتابه بالحديث عن القرآن الكريم: كيف نزل ولماذا خلد؟ وثبوت القرآن، كيف تم جمعه؟ فالقرآن الكريم هو صوت الحق الذي قامت به السموات والأرض... ومعانيه هي الأشعة التي تألق فيها الوحي الأعلى، وتعرض لها الأولون والآخرون، واستطاعوا بها أن يعرفوا من أين جاءوا، وكيف يحيون، وإلى أين يصيرون. وهذا القرآن على الرغم من أنه لم ينزل إلا من أربعة عشرا قرنًا، فإن معانيه قديمة جديدة؛ فيها خلاصة كاملة للرسالات الأولى، وللنصائح التي بذلت للإنسانية من فجر وجودها، فالقرآن ملتقى رائع للحكم البالغة التي قرعت آذان الأمم في شتى العصور، واستعراض دقيق للأشفية التي احتاجت إليها الأرض جيلا بعد جيل... والنبي (صلى الله عليه وسلم) الذي جاء بهذا الكتاب يعلم أنه جدد الدين الأول، وأقام ما انهدم من أركانه، وأوضح ما حال من معالمه.. نعم ولو كان عيسى حيًّا بيننا ما وسعه إلا اتباعه... ذلك أن التطابق بين حقائق القرآن، ومعارف الكون مفروض ابتداء، فإن منزل الكتاب هو مجري السحاب، ومن ثم يستحيل أن تختلف حقيقة كونية وحقيقة قرآنية.. كيف نزل ولماذا خلد؟ لكي نفهم القرآن فهمًا صحيحًا فلابد أن نفهم الأحداث والظروف التي عاصرت نزوله، ذلك أن آيات القرآن وثيقة الصلة بالظروف التي جاءت فيها، وفقه هذه الظروف جزء من فقه الهدايات السماوية التي تعلقت بها وتعرضت لها، ولو أن القرآن نزل دفعة واحدة لما أمكن لدارسه أن يفصل بين معانيه وبين الملابسات العديدة المتشبعة التي أحاطت بها، أو لحار في وضع كل حكم بإزاء الحالة الدقيقة التي تناسبه. أما والقرآن نزل مفرقًا على بضع وعشرين سنة حفلت بالحوادث الجسام...إلخ، لذلك لابد من فقه القرآن من فقه الحياة نفسها التي أحاطت ببداية أمره ونهايته، ولابد من استيعاب التاريخ المفصل لهذه الفترة الخطيرة.. ومن الظلم الفادح للقرآن الكريم أن يحاول أحد تفسيره وهو ذاهل عن الجو الذي اكتنف نزول الآيات، فإن تاريخ نزول الآيات وسببه لا يمكن تجاهلهما في تكوين المعنى وإيضاح القصد، بل لا يمكن تجاهلهما في تربية الناس بالقرآن وأخذهم بآدابه.. يقول تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (الفرقان: 32).. وخلود القرآن يرجع إلى جملة الحقائق التي حواها. إن هناك معارف يلحقها الخطأ والصواب، فطروء التغير عليها مفهوم، أما ثبتت صحته فإن مر الأيام لا ينال منه شيئا.. وإذا ثبت أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن هذا الثبوت لا يتفاوت على اختلاف الليل والنهار، وهو بعد عشرة قرون مثله قبل عشرة قرون، وهناك قوانين علمية كثيرة بلغت هذه المرتبة من اليقين، وليس في قدمها ما يغض من شأنها.. والمعارف التي حواها القرآن هي كلها من هذا القبيل المقطوع بصدقه، سواء في ذلك وصفه للكون أم سرده لتاريخ الأوائل، أم الأسس والعبر التي قررها لازدهار الأمم وانهيارها، وما يتبع ذلك من توجيهات مطلقة للناس أجمعين.. إن القرآن خلد على الزمان لأن كل كلمة فيه تنزهت عن العلل: (...كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1)، وقيام معانيه على الحق كقيام الشعاع على النور، والحق لا يزول ولا يحول، وذلك سر خلود القرآن... وللحديث بقية.