اليوم هو الذكرى الأسوأ في تاريخ الوطن الحديث ، ذكرى نكسة أو هزيمة يونيه 1967 التي حطمت الجيش المصري وأذلت قياداته وأنهت حقبة عبد الناصر تقريبا من الناحية العملية وفككت معظم مؤسسته الأمنية والاستخباراتية ووضعت كثيرا من قياداتها في السجون وتمت تصفية آخرين ، هذا اليوم كان يوم الحقيقة والتعري والانكشاف ، فقد عاش الشعب المصري في غيبوبة دعاية إعلامية إجرامية استخدمها نظام عبد الناصر ومؤسسته الأمنية المهيمنة على كل خلايا الوطن بصورة بشعة ، استخدمها أسوأ استخدام ، وصور للناس أنه الزعيم الذي لا يقهر ، والذي يعمل له العالم ألف حساب ، وترتعد فرائص الأمريكان من خطبه العظيمة ، وتهتز الأممالمتحدة من تصريحاته ، ولا تنام إسرائيل من هول ما تنتظره من جيشه المغوار ، وأنه منح مصر العزة والكرامة ، وكأنها كانت بلا كرامة من قبله ، وأنه صنع المجد والفخار ، رغم أن شعبها كان في ضنك من العيش واهتراء في بنية الدولة كدولة حديثة ولم ينجز في حياته بطولها سوى مشروع السد العالي، في هذا اليوم ، الذي دللوه بوصف "يوم النكسة" هروبا من ألم الهزيمة وعارها ، ارتوت أرض سيناء بدماء آلاف الشباب الأبرياء الذين زج بهم قادة عسكريون فاسدون وقيادة سياسية حمقاء في الصحراء بدون تجهيزات وبدون أي خطط واضحة ولا مفهومة ، فتحولوا إلى قطط هائمة على وجهها في الصحراء ، يتسلى الصهاينة باصطيادها بطائرات الهليوكبتر أو يموتون عطشا وجوعا في صحراء قاسية لا ترحم ، وكثير من هؤلاء الشبان ومنهم شقيقي الأكبر لم يعثروا لهم على جثة ، ضاعوا في الصحراء ، ودفنوا في مكان ما ، أو أكلت الغربان جثثهم ، وصنفهم الجيش بعد ذلك بوصف "مفقودي العمليات العسكرية" ، وهم بالآلاف ، لأن القادة العسكريين كانوا مشغولين برعاية الفن والفنانين ، وأعمال السيطرة القذرة ، والسهرات الترفيهية ، ومصاحبة الممثلات الجميلات وقتها ، والمطربات المثيرات ، بينما أولادنا يموتون بلا ثمن ولا حتى شربة ماء ، وقام قادة المؤسسة وأذرعها الأمنية بتقسيم مناطق النفوذ والسيطرة على مؤسسات الدولة وشركاتها ومصالحها وكأنها غنائم حرب ، وغرقوا في مستنقع السياسة الرخو والمخملي وقتها ، والانشغال بملاحقة اليساريين والإسلاميين وبقايا الوفد بدلا من الانشغال بالمهمة الوحيدة والمقدسة ، حماية حدود الوطن المهددة ، وخدرتهم أغاني النفاق وأصوات التطبيل ، والأقلام المستأجرة ، ومثقفون تحت الطلب دائما . في الخامس من يونيه عام 1967 انكسر الجيش المصري وتحطم ، وراحت بقاياه تلملم أشلاءها على الجانب الآخر من القناة الذي أوقف وحده كعائق مائي تقدم قوات العدو إلى تخوم العاصمة ، وانهار كل شيء ، وتعرى كل شيء ، لا جيش ولا مخابرات ولا توجيه معنوي ولا إعلام ولا دجل ، ولكن لأن هذا الوطن أكبر من الجيش وأكبر من المخابرات وأكبر من الدجل الإعلامي ، ولأن مصر أكبر من أن تكون جيشا ركبوا عليه دولة كما فهم أو تصرف الجنرالات الصغار الذين خربوها ، لم تنكسر مصر ، ولم ينكسر شعبها رغم الأحزان ، وتماسك الشعب المصري ، ومنح بقية القادة المهزومين الفرصة أن يستوعبوا درس الهزيمة ، وأن يعتذروا للشعب عن الخراب الذي تسببوا فيه ، والعار التاريخي الذي ألصقوه بمصر ، تحمل الشعب المصري المعاناة ، وعاش المصريون كأفقر شعوب الدنيا ، لا صحة ولا بنية أساسية ولا تغذية صحيحة ولا تعليم ولا طرق ولا بحث علمي ولا أي مقوم من مقومات الدولة الحديثة ، لأن كل الجهد تم توجيهه لإعادة بناء الجيش والإنفاق عليه من لحم الحي ، والثأر للوطن ، وعندما جاء السادات ، يرحمه الله ، كان كل مشروعه ومشروعيته يتلخص في محو هذا العار وتلك المرارة التي تسبب فيها الجيش وقياداته ومؤسساته ، وأن يحقق النصر "المعنوي" الذي يرفع رأسنا ، ويجبر كسرنا ، وقد كان ، بفعل الروح الجسورة التي توهجت في صدور شباب مصر ، أبناء الغلابة والفقراء ، ووسط هتافات "الله أكبر" وشرر الثأر الذي يتفجر في عيون المقاتلين ، تحقق النصر ، بفضل الله . من يستحضر مانشتات الصحف القومية في تلك الأيام ، وكثير منها ينشر حاليا في مواقع التواصل الاجتماعي ، وهي الصحف التي كان يوجهها القادة العسكريون والمؤسسات الأمنية ، يدرك كيف أجرموا في حق الشعب المصري ، وتعمدوا تضليله ، وتغييب وعيه ، والكذب عليه ، وخداعه ، لكي يعيش في وهم النصر ، بينما هم يهربون من أرض المعركة ،ويتركون الشباب والجنود الغلابة يقتلون وينكل بهم في الصحراء ، قبل أن يفيق الجميع بعد أيام قليلة على الفضيحة والعار والجريمة وأن الشعب كان ضحية حملة تضليل وكذب وخيانة ، نعم ، خيانة . الدرس الذي نتعلمه من ذكرى النكسة ، أن مصر أكبر من أن تكون جيشا أو شرطة أو مخابرات ، فقد انكسر الجيش وتعرت المخابرات ، ولم تنكسر مصر ، وأخذ الشعب بيد جيشه وانتشله من الإحباط والانكسار ومرارة الهزيمة ، وحمى ظهره ، وبث فيه الروح من جديد ، حتى صحح أخطاءه ، ومسح عاره ، وعاد لمصر من جديد جيشها الوطني ، فهل بقيت دروس النكسة ومقدماتها وأسبابها حاضرة في ذاكرتنا الوطنية ، جيشا وشعبا ، أم نسينا ؟! المجد للشهداء ، والعز والبقاء لهذا الوطن الغالي ، والسيادة للشعب المعطاء الصبور ، ودعاؤنا بالتوفيق لقواتنا المسلحة أن يلهم الله قادتها استيعاب دروس الماضي وعظاته ، لتفادي تكرار مآسيه ونكساته ، لا سمح الله .