لم يدم شهر العسل طويلاً بين شريكي الحكم في السودان (المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية) فبعد وقت قصير من توقيع اتفاقية السلام -التي أنهت واحدة من أطول الحروب في القارة الإفريقية- بدأت ينجم الخلاف بين الطرفين.. و قد ألقت الأحداث الدامية التي وقعت على إثر مصرع (جون قرنق) - زعيم الحركة الشعبية و النائب الأول في حكومة ما بعد السلام- ظلالاً قاتمة على طبيعة العلاقة التي لم يكتمل تكوينها بعد. مشكلة حقيبة (وزارة الطاقة)- إبان التشكيل الوزاري للحكومة الوليدة كان بداية السيل، ولكنه حسم في نهاية الأمر لصالح المؤتمر الوطني.. أما قضية (مثلث أبيي) المتنازع على تبعيته بين الشمال و الجنوب؛ فهو من أكبر نقاط الخلاف بين الشريكين، حيث جاء تقرير الخبراء الأجانب في اللجنة التي تم تفويضها لدراسة وضع المنطقة متجاوزاً لكل الحقائق التاريخية، و مليئاً بالثغرات، و متحيزاً بشكل واضح للطرف الجنوبي حيث قضى بإلحاق المثلث بالجنوب.. الرئيس البشير رفض تقرير الخبراء بحجة أن اللجنة تجاوزت التكليف الذي منحه إياها بروتوكول (أبيي).. و لكن قبائل العرب المسيرية الذين يقطنون ذلك الجزء من البلاد منذ أكثر من ثلاثمائة عام ثارت ثائرتهم، و كانت أكبر و أعظم، فقد أعلنوا للملأ أن دون أرضهم الموت الزؤام.. و لم يخف الفريق البشير تأييده لموقفهم، و حينها حرموا على المستر برونك- رئيس بعثة الأممالمتحدة بالسودان- دخول مناطقهم ، و أنذروه أنهم غير مسؤلين عن سلامته إذا ما وطئت قدماه أراضيهم، فكان نصيبه أن بضعة سويعات في مطار مدينة (المجلد) - جنوب كردفان- قفل بعدها راجعاً إلى الخرطوم!.. الحركة الشعبية اعتبرت ما تم نكوصاً عن نصوص الاتفاقية، و أصرت على موقفها في اعتبار تقرير الخبراء الأجانب نهائياً، بل بدأت عملياً في فرض إجراءات السيادة على المنطقة.. و لكن الآونة الأخيرة شهدت حرصاً كبيراً من قبل قادة الحركة على إبراز مناخ الخلاف داخل الحكومة، تمثل ذلك كثير من التصريحات يطلقها بين الفينة و الآخرى خليفة (قرنق) النائب الأول سلفاكير ، و بعض القياديين في الحركة أمثال دينق ألور الوزير برئاسة مجلس الوزراء و غيرهما..و قد و قد أدلى سلفاكير – الأيام القليلة الماضية- بتصريحات خلال مؤتمر صحفي، و اتهم فيها المؤتمر الوطني بأنه غير جاد في تطبيق اتفاق السلام، و أنه خرق ا لاتفاق فيما يتعلق بأبيي.. و قال إن الحركة لم تتسلم نصيبها من البترول، مطالباً الحكومة بتحديد حجم البترول المنتج و نسبة الجنوب منه.. بينما اتهم دينق ألور المؤتمر الوطني بأنه يرعى التيارات الإنفصالية.. و هكذا مضتت رياح الخلافات في تزايد مضطرد، حيث هددت الحركة الشعبية باللجوء إلى الهييئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا (إيقاد)، و الأممالمتحدة لحسم الخلافات في شأن تنفيذ اتفاق السلام.. الوحدة الجاذبة كانت مجرد شعار كان من ضمن ما أطلقه سلفاكير تصريحات سابقة تناقلتها الصحف -لدى زيارة قام بها إلى أمريكا- قال فيها أنه لم يقرر بعد ما إذا كان سيصوت لصالح الوحدة أم الانفصال، و أبدى استغرابه من استقبال الحكومة الأمريكية أحد القياديين في الأمن السوداني واصفاً إياه بمجرم الحرب، و تساءل: لماذا لم تعتقله السلطات الأمريكية؟!.. اتفاق السلام الذي أقر تصويت الجنوبيين من أجل تقرير مصيرهم، ورد فيه نص يحث الطرفين على العمل من أجل جعل الوحدة جاذبة خلال الفترة الانتقالية المقدرة بست سنوات.. هذا النص كان المدخل الأساسي الذي حاول المؤتمر الوطني عن طريقه طمئنة السودانيين على مستقبل بلادهم في ظل الاتفافية!!..و لكن النص كان شعاراً أجوفاً من غير ضمانات، و لا يستند على واقع عملي، بل الحقائق تقول أن الحرب التي استمرت لنصف استمرت طيلة نصف قرن و لم تتوقف خلال هذه المدة إلا لفترات قليلة، لا يمكن أن تخلف مناخاً جاذباً للوحدة، بدون سعي..أضف إلى ذلك أن الاتفاق نفسه جاء ممتلئاًَ بالثغرات الكثيرة التي جعلته منه مصدر قلق أساسي لدى الشماليين، حيث منح الجنوب أكثر مما كان يطلب، و أدخل آخرين لم يكونوا طرفاً في الأمر: مثل القوات الدولية التي استقدمت لمراقبة الاتفاق، فصارت واحدة من أكبر مهددات السيادة الوطنية. الحكومة السودانية تعيش واحدة أكثر من أزماتها عصفاً، ففي حين تواجه تمرداً في الغرب، و آخر في الشرق، وجدت نفسها تخوض خلافاً داخلياً لا يعلم إلا الله إلى أين سينتهي بالبلاد. [email protected] *صحفي سوداني