لا أعلم مدى دقة ما نقلته وسائل الإعلام عن حزب النهضة التونسي أنه تعهد بالعمل على إقامة مجتمع تعددي وعلماني واحترام حقوق الإنسان. الدقة التي أقصدها هنا تتعلق بكلمة "علماني" وإن كنت أرجح أنه يعني ذات المفهوم الذي تحدث عنه رجب طيب أردوغان أثناء زيارته للقاهرة، وليس ذلك المترسخ عند عموم المصريين والعرب. لكن لأن "العلمانية" مصطلح سيئ السمعة في عالمنا العربي بسبب صورتها النمطية عندنا، فقد قوبلت التصريحات المنسوبة إلى الحزب بدهشة وشيء من الاستنكار من بعض أطياف التيار الإسلامي. لقد تأثر راشد الغنوشي وحزبه في المرحلة الأخيرة بحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا وبطريقته في إدارة شئون الحكم. الغنوشي ليس تاريخا واحدا ثابتا، بل تطور مستمر واجتهاد حياتي لا يتوقف ولكن لا تخرج عجلته عن صحيح الإسلام. العلمانية عند أردوغان وربما عند الغنوشي هي ما نسميه الدولة "المدنية" في مصر تخفيفا من وطأة المصطلح السيئ. أي أن يتساوى جميع المواطنين في الحقوق والواجبات دون تفرقة دينية أو طائفية أو سياسية أو عرقية. وهي هنا ترجمة لمقولة أردوغان في القاهرة أن تكون الدولة علمانية أما الشخص فله أن يكون متدينا، مسلما كان أو تابعا لدين آخر، ويتمتع بكل حقوقه في العبادة ولا يفرض عليه ما يرفضه دينه. هنا سيجد الكثيرون تناقضا شديدا بين الأمرين، وسيقولون إن النظام العلماني الراسخ في تركيا سبب لجوء أردوغان إلى ذلك التفسير، لأن غير ذلك سيؤدي للانقاض عليه بفعل القوانين المعمول بها هناك، فما حاجة الغنوشي وحزب النهضة في ذروة انتصار في أول انتخابات تجري بعد سقوط الطاغية بن علي؟! الغنوشي قد يشكل الحكومة وسيكون حزبه مؤثرا في صياغة الدستور الجديد، أي أن معظم أوراق اللعبة في يده. الاعتماد على ذلك فقط ربما ستكون عواقبه وخيمة على مستقبل الديمقراطية التونسية وربما تنسحب إلى المصرية أيضا، لأنها ستعني افتقاد الثقة في التيار الإسلامي، وأنه يمكن أن يرتد عن برنامجه الذي قدم به نفسه قبل الانتخابات ونال تصويتا عاليا على أساسه. لذلك كانت تصريحات حزب النهضة ذكية للغاية وتنم عن تمرس سياسي، خصوصا أن التنظيمات العلمانية في تونس ظاهرة ومؤثرة وترتبط بسلة قوانين نافذة مثل قانون حظر تعدد الزوجات، ومدونة الأحوال الشخصية وحقوق المرأة ومساواتها الكاملة للرجل، وأي تعديلات متعجلة أو تهديدات لتلك القوانين ستجعل المجتمع على صفيح ساخن، وستؤدي للانقضاض على "النهضة" في حالة صدور تصريحات متسرعة وغير منضبطة لا سيما أن حزبين علمانيين جاءا في المركزين الثاني والثالث ويمكنهما مع أحزاب علمانية صغيرة تشكيل تحالفات قوية ومؤثرة. الحالة المصرية مختلفة كثيرا عن تونس، لكن تصريحات "النهضة" تطمئن الغرب والداخل أيضا على ما يمكن حدوثه في مصر بعد الانتخابات القادمة، سيما أن الإخوان والسلفيين الذين قد يحرزون أغلبية برلمانية، أكدوا أنهم لن يخرجوا عن القوانين السائدة وإن اختلفت مع توجهاتهم ومرتكزاتهم، وظهر ذلك في تخليهما عن ما اعتبر من قبيل الشعارات الدينية مثل الشعار الإخواني "الإسلام هو الحل". وهذا ينبئ عن الوصول إلى نفس المفهوم الأردوغاني والغنوشي عند عند معظم التيار الإسلامي المؤثر في مصر والذي يكاد يقترب من تولي إدارة العملية السياسية، مع فارق في استخدام مصطلح العلمانية، فليست هناك حاجة إلى ذلك في مصر، ولا تضغط التيارات الليبرالية في سبيله. بل هناك توافق على مصطلح "الدولة المدنية" الذي انفرد المصريون باطلاقه رغم عدم وجوده في علوم التنظيمات السياسية والاجتماعية، وهي عبقرية ننفرد بها في تجاوز الصعوبات والعثرات. [email protected]