شكّلت العملية العسكرية، التي قام بها مسلَّحو حزب العمّال الكردستاني ضدّ ثمانية مواقع عسكرية تركية دفعة واحدة في منطقة تشوكورجا على الحدود مع العراق، ذروة التصعيد بين الطرفيْن. فهي العملية الأولى منذ عام 1993، التي يسقط فيها 24 قتيلا من الجنود الأتراك مرة واحدة. غير أن الصّدمة التي تلقّاها الأتراك، حكومة وشعبا، لا تلغي حقيقة أن العملية، مثلها مثل غيْرها، هي مجرّد محطّة عسكرية في مواجهة مفتوحة منذ أمد بعيد، عسكريا وسياسيا. وكان من الطبيعي أن تشهد هذه المواجهة مثل هذه العمليات "النوعية"، تماما مثلما تشهد من وقت لآخر عمليات سياسية نوعية. في الواقع، لا يمكن فصل عملية تشوكورفا عن ثلاثة سياقات: تاريخية وراهنة وإقليمية - دولية. فالمشكلة الكردية ليست بِنت اللحظة الرّاهنة، فهي قائمة منذ تأسيس الجمهورية عام 1923 والنظرة الاستئصالية والإنكارية للهَوية الكردية، أسّسها وراكم خلفاؤه عليها مصطفى كمال أتاتورك، إن من خلال عمليات التصفية العسكرية أو النقل الجماعي للسكان الأكراد من مناطقهم الأصلية إلى أماكن بعيدة عنها. وفي عهد أتاتورك بالذات، ظهر المُصطلح الشهير الذي يصف أكراد تركيا بأنهم "أتراك الجبال" في طمسٍ لهويتهم الأصلية. وعلى امتداد العقود اللاّحقة وصولا إلى اليوم، لم يتغيّر السياق الأساسي للمشكلة: الأكراد ينتفضون للإعتراف بهم كمجموعة إثنية لها خصوصياتها، والدولة ترفض الإعتراف بذلك. وأمام الطريق المسدود، لجأ الأكراد إلى العمل المسلّح بقيادة حزب العمّال الكردستاني منذ عام 1984 ولا يزالون. بعد اعتقال زعيم الحزب عبدالله أوجالان عام 1999 وتخلّيه عن العنف، كانت الفرصة متاحة لتسوية تاريخية لحلِّ المشكلة. وعندما استلم حزب العدالة والتنمية السلطة في موفى عام 2002، كبرت إمكانية هذه الفرصة بذِهنية الإصلاح التي كان يحملها الحزب، لكن التطوّرات حملت عكْس ذلك، وبان أن حزب العدالة والتنمية لا يختلف في مقاربته للمسألة الكردية كثيرا عن جميع الحكومات التي سبقته، بكل أطيافها اليمينية واليسارية والعِلمانية والإسلامية. في المسار الثاني الراهن في عام 2011، عرفت القضية الكردية تطوّرات تصعيدية عديدة مفتوحة على كل الإحتمالات. ففي عشية الانتخابات النيابية التي أجريت في 12 يونيو الماضي، ارتفعت حِدّة الخطاب القومي المُتشدّد لرئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان. وبعد أن اعترف بوجود "قضية كردية" في تركيا في عام 2005، تراجع عن ذلك أثناء الحملة الانتخابية وقال إنه توجد فقط مشكلة مواطنين أتراك من أصل كردي. وأتبع اردوغان موقفه هذا بموقف عالي النّبرة قبل أيام من موعد الانتخابات بقوله، أنه لو كان في السلطة عند اعتقال أوجالان وصدور حُكم الإعدام بحقه، "لكُنت نفّذته فورا". ولم تكتف الدولة التركية بذلك، بل أسقطت عضوية نائب كردي انتُخب هو خطيب دجلة، وأبقت خمسة نواب آخرين انتُخبوا في السجن، هم جزء من 36 نائبا نجحوا بصفة مستقلين على قوائم حزب السلام والديمقراطية الكردي. فكان ذلك "رسالة" سلبية إلى الأكراد ومؤشِّرا على أن المواجهة مستمرّة وأن الدولة ليست مستعدّة لفتح صفحة جديدة. المعركة الكُبرى اليوم، ستدور حول الدستور الجديد الذي بدأ النقاش حول أسُسه الجديدة يوم الأربعاء 19 أكتوبر، أي بعد ساعات قليلة من تنفيذ عملية تشوكورفا، ما اعتُبر في المقابل "رسالة" كردية دمَوية إلى ما يمكن أن يكون الوضع عليه إن لم يأخذ الدستور الجديد بعد اكتِماله بالمطالب الكردية، وهي تضمين الدستور الجديد اعترافا بالهوية الكردية والحقوق الثقافية، إضافة إلى تغيير قانون الإنتخاب لاحقا، ليُتيح للأكراد الدّخول إلى البرلمان كأحزاب، عبْر إلغاء شرط الحصول على 10% من أصوات الناخبين في القانون الحالي. وفي نفس السياق، يطالب الأكراد بلامركزية واسعة، تصل إلى حدّ الحكم الذاتي الذي تحوّل إلى عنوان للتحركات الكردية في الأشهر الأخيرة عبْر حزب السلام والديمقراطية الكردي وقِوى المجتمع المدني الكردي. وفي المسار الثالث، ورغم أن الكُرة في الأساس تقع في الملعب التركي، حيث أن الدولة التركية هي الجِهة القادِرة على العطاء، فإن المشكلة الكردية باتت في أحد أبعادها، إقليمية ودولية. وتعكِس التجارب التاريخية، البعيدة والقريبة، أن الأكراد كانوا يستفيدون من التحوّلات في المنطقة أحيانا، وأحيانا أخرى، كانوا ضحيتها. وبقدر ما كان الأكراد يستغيثون بالخارج، كانوا ينزلِقون إلى الارتِهان بقرارات القِوى المؤثرة. وإذا كان أكراد العراق مرّوا في الحالتيْن، الإستفادة والضحية، ووصلوا إلى حالة الصِّيغة الفدرالية، التي تُعدّ مكسبا مهِمّا جدا في مسار الحركة الكردية في العراق وفي الشرق الأوسط، فإن الحركة الكردية في تركيا وحزب العمال الكردستاني ممثلها الأبرز إن لم يكن الوحيد، لا تزال عُرضة لتأثيرات خارجية متعدّدة ومتنوِّعة. مخاوف أنقرة وما من شك أن المرحلة التي تمُر بها منطقة الشرق الأوسط، والعالم العربي تحديدا منذ بدء الثورات، تترك أثرها في مسار الحِراك الكردي في تركيا، ذلك أن من مخاوف أنقرة من الوضع في سوريا، أن ينتهي إلى صِدام مذهبي وإثني. وفي هذه الحالة، يتخوّف الأتراك من نشوء حالة من الفوضى والفراغ في سوريا، تنتهي إلى ظهور شريط كُردي في شمال سوريا، يكون جزءا من شريط كردي أوسع، يشمَل مُعظم أكراد الشرق الأوسط من شمال العراق إلى جنوب تركيا، وصولا إلى سوريا وضِفاف البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا الحال، يكمُن الخطر ليس فقط على وحدة أراضي تركيا، بل أيضا على اتِّصالها الجغرافي بالمحيط العربي، وربما الإسلامي أيضا. في المقابل، يستفيد الأكراد من حالة التوتّر في العلاقات بين تركيا ومُعظم محيطها الإقليمي. فصورة تركيا ظهرت في الأسابيع الأخيرة على أنها بلد مُحاط بالأعداء، من التهديد بالحرب مع قُبرص اليونانية بسبب التنقيب على النفط في المتوسط، إلى إسرائيل التي اتّخذت تركيا تدابير ضدّها بسبب قضية سفينة مرمرة، بل إن تركيا هدّدت بالذهاب حتى إلى الحرب إذا تطلب الأمر ذلك. وفي المقابل، هدّدت إسرائيل بأنها ستُساعد حزب العمال الكردستاني، كما السّعي لكي يعترف العالم بالإبادة الأرمنية. ومع سوريا، كان التوتّر التركي في ذِروته، وصولا إلى التهديد بتدابير عسكرية تجاه دمشق، ومنها إقامة حِزام حدودي داخل سوريا، بسبب موجات هجرة السوريين إلى تركيا. كذلك، تصاعد التوتر السياسي بين أنقرة وطهران، بسبب موقف تركيا من الأزمة السورية ومن نصب تركيا رادارات نظام الدّرع الصاروخي على أراضيها، وهو ما اعتبرته إيران عملا عَدائيا ضدّها. وقد تسرّب تقرير عن الاستخبارات التركية، يشير إلى أن معظم دول الجِوار التركي قد أوقفت تعاوُنها الأمني مع أنقرة. وفي ظل هذا الواقع، لا يمكن لحزب العمال الكردستاني إلا الاستفادة من هذا المناخ ليصعّد من هجماته، وبالتالي، ضغوطه على أنقرة في مرحلة الاستحقاقات الدستورية خصوصا، وفي سياق المواجهة المفتوحة والدائمة بين الطرفيْن عموما. يعتقد العديد من المسؤولين والكتّاب الأتراك أن هناك فخّا يُنصَب لتركيا من أجل استدراجها إلى عمليات عسكرية في شمال العراق، يخفّف من صعودها الاقتصادي وينعكِس توتّرا في داخلها ويضغط عليها للإنكفاء عن التدخّل في الملفات الإقليمية والتخفيف من دوْرها الذي بات يهدِّد قِوى إقليمية كثيرة، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، غير أن حكومة حزب العدالة والتنمية تجِد نفسها، لاستعادة هيبتها، ولا سيما بعد عملية تشوكورجا، مُضطرّة إلى خيار اللّجوء إلى عمليات عسكرية في شمال العراق. ومع ذلك، فإن أفُق هذه الردود العسكرية، مهْمَا اتّسع، محكوم بالفشل، لأنها جرّبت سابقا ولم تنجح، ولأن قوة حزب العمال الكردستاني لا توجد فقط في الخارج، بل أيضا في الداخل، ولأن أصل المشكلة، أولا وأخيرا في الداخل، وهو الإعتراف بالهوية الكردية ومترتباتها، الثقافية والسياسية والإدارية وما إلى ذلك. وشرط تحقيق ذلك، هو تغيير الذِّهنية التركية في التعاطي مع "شعب" يُناهز تعداده 12-15 مليونا. ومن دون ذلك، ستكون تركيا أمام استمرار هذا الجرح النّازف، الذي قد يصل إلى نقطة اللاعودة، تماما كما حدث في العراق. المصدر: سويس انفو