إن المتأمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية على وجه الخصوص يظهر له بوضوح مقدار الابتلاء الشديد والأذى العظيم الذي ابتلي به عليه الصلاة والسلام، فلم تترك قريش طريقا ولا سبيلا فيه نيل منه عليه الصلاة والسلام ومن دعوته المباركة إلا وسلكته، بالترهيب تارة، فألبت عليه القبائل، واتهمته بالسحر والجنون، وسلطت عليه سفهائها، وبالترغيب تارة أخرى، فعرضت عليه الملك والرئاسة، والأموال، والنساء. لكن مع ذلك كله ظل عليه الصلاة والسلام ثابت الجنان، ملتزما أمر ربه لا يحيد عنه قيد أنملة، متوكلا على ربه في كل شأنه. إن الدروس المستفادة من سيرته عليه الصلاة والسلام كثيرة جدا، من أهمها، وضوح دعوته وإصراره على تبليغها للناس. دعوة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، دعوة يميزها العالم والجاهل على حد سواء، لقد كان الأعرابي الأمي الذي عاش حياته كلها في الصحراء يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فتُعرض عليه الرسالة في بضع دقائق فينطلق إلى قومه وقد تهاوت من قلبه تلك الأصنام التي كان يعبدها والأوثان التي كان يقدسها ولم يبق في قلبه إلا قول الحق – تبارك وتعالى -: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد). ينطلق إلى قومه وقد انقطعت كل الوشائج الجاهلية والروابط القبيلة ولم يبق منها إلا قوله – سبحانه - (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين). هذه العقيدة الواضحة البينة كانت ظاهرة لا تخفى على أحد، وتميز معسكر الإيمان عن معسكر الشرك كان من أخص خصائص دعوته عليه الصلاة والسلام، فالمشرك الذي كان يرغب في الدخول إلى معسكر الإيمان عليه أن يخلع كل الأوثان والأصنام والوشائج الجاهلية على عتبة الباب قبل أن يلج إلى رحاب الإيمان، قال الله – عز وجل -: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها). يتوهم كثير من الدعاة اليوم أن الدعوة ومصلحتها تستدعي خلط المفاهيم، وقد سار كثير من هؤلاء في هذا النفق المظلم، فقدموا للناس دعوة مشوهة مشوشة، دعوة تخلط بين الحق والباطل والكفر والإيمان، فهذا يترحم على بابا الفاتيكان، وذاك يمتدح الإجرام ويجعل من الأنظمة التي أقامت عروشها على الطغيان نموذجا رائعا ومثالا رفيعا يحتذى به، وعلى مثل هؤلاء سار فئام من الدعاة، فبعضهم يتطلع إلى دولة علمانية، وآخرون يدعون إلى أخوة اليهود والنصارى تحت مسمى الإخاء الديني، وبعضهم الآخر جعل شرع الله مجالا للاستفتاء في قنوات مشبوهة، فهؤلاء وغيرهم عبر ظهورهم المستمر في القنوات الفضائية أدخلوا كثيرا من المسلمين في التيه، فصارت الواضحات البينات من الأمور المشتبهات ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن الصراع الدائر اليوم بين الأمة وبين أعدائها لا ينحصر في احتلال الأراضي ومصادرة المقدرات كما يتوهم البعض، إن الصراع اليوم له وجوه كثيرة، أخطرها على الإطلاق الحرب على الثوابت والقيم، إن المصلحة التي يحصرها كثير من الدعاة في الحصول على منصب هنا أو وزارة هناك أو حتى حكومة بأكملها مقابل ضياع الثوابت وذهاب القيم مصلحة موهومة. إن الضبابية التي يدعو إليها كثير من الدعاة اليوم تؤدي في النهاية إلى اختلال الموازين واضطراب المعايير التي يميز بها الناس الحق من الباطل، إن الغاية التي أرسل الله من أجلها الرسل هي غرس العقائد الصحيحة والقيم الفاضلة في قلوب العباد، وهذه القضية ذاتها هي التي يريد شياطين الإنس والجن طمسها أو تميعها. إننا حينما ندعو إلى وضوح دعوتنا لا يعني ذلك ضرورة الاصطدام بالشرق والغرب، فإننا ندرك أن أمتنا مستضعفة قد تسلط عليها أعداءها، ولكننا ندعو إلى الالتزام بما كان عليه أسلافنا في دعوتهم فإنه "لا يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح به أولها". ندعو إلى بيان حقيقة التوحيد وموالاة أهله ونبذ الشرك ومعاداة أهله، فإن أولى خطوات النصر لا تتأتى إلا بتحقيق هذا الأصل العظيم في القلوب، فإن عجزنا عن تحقيق هذا الأصل فلا يجوز لنا أن نقول الباطل ولا نخلط التوحيد بالشرك ولا النور بالظلمات.