لم يكن معمر القذافي ، طوال حياته ، يستقبل كاميرات مصوري الصحف أو كاميرات المحطات التليفزيونية إلا وهو يطيح برأسه إلى الأعلى وإلى أقصى الخلف في هيئة مترعة بالكبر والعجرفة والجنون معا ، وكانت تلك الصور والمشاهد كافية لإعطاء صورة لسلوك هذا الطاغية الذي حكم الشعب الليبي ، بل أذل الشعب الليبي على مدار أكثر من أربعين عاما ، وسامهم القهر والسجن والقتل والتنكيل والرعب والفقر والتهميش والهوان بمختلف ألوانه ، وملأه الهوس بالألقاب الفخمة الضخمة من مثل ملك ملوك أفريقيا وأمين القومية العربية ، ولذلك جاءت لحظة النهاية له على قدر تلك العجرفة والكبر ، فكانت منتهى الإذلال والإهانة على يد شعبه ، وليس على يد أحد سواهم . مشاهد الفيديو التي تم بثها أمس على شبكة الانترنت وعلى فضائيات عربية ودولية كبيرة لواقعة الإمساك بالقذافي كانت لا تصدق من فرط صدمتها وهولها ، كثير ممن شاهدوا تلك الصور قالوا أن جسدهم اقشعر جلده وهو يشاهدها ، فكيف بمن عاشوا تلك اللحظة بأنفسهم وكيانهم وجسدهم ، لحظة القبض على الطاغية القاتل ، لحظة الثأر ، لقد كان البعض من هؤلاء الأبطال يهتفون هتاف من لا يصدق ، أحدهم صرخ : معمر معمر ، كأنه لا يصدق أنه هو بشحمه ولحمه في قبضتهم ، ذلك الديناصور السياسي المنتفخ كبرا والمحاط على مر السنين بهالة من الرعب والخوف ، هل هو فعلا ذلك الذي يراه مستسلما مهانا تافها بين يديهم ينزف دما ، أحدهم راح يتذكر ثأر مدينته "مصراته" تلك المدينة التي أعود وأؤكد أن التاريخ سيسجل معركتها مع كتائب القذافي وجحافله في أروع سطور التضحية والفداء والإصرار والصبر والتمسك بالأمل في النصر حتى النفس الأخير ، مصراته التي حاصرها القذافي من جميع الجهات وراح يدكها بدباباته وراجمات صواريخه ومدفعيته وقناصته على مدار شهرين تقريبا فقتل النساء والأطفال والشيوخ وأباد أسرا بكاملها في بيوتهم وهدم المساجد على رؤوس المصلين وضرب المستشفيات لقتل المرضى وأراد أن يسويها بالتراب ، وصمد أهلها صمود الأبطال في ملحمة معجزة ، حتى كسروا القذافي وكتائبه ودفعوها عن حدود مدينتهم ، ثم قدر الله أن يكونوا هم الذين فتحوا طرابلس ، وهم أيضا الذين فتحوا سرت وهم الذين أسروا القذافي ونجله ، أحدهم كان يصرخ : مصراته ، الله أكبر ، مصراته يا كلب !! ، البعض الآخر هرب منه الكلام ونسي اللغة فلم ينطق بكلمة واحدة ، لم يجد أي كلمة يمكن أن يعبر بها عما يعايشه ويراه ، فقط ظل يصرخ ويصرخ في هستيريا من لا يصدق أن الطاغية في قبضة يده الآن ، لحظة تاريخية ستظل عالقة في خيال الملايين لسنوات طويلة . لن تنسى ذاكرة الليبيين صور طلاب الجامعات المعارضين للقذافي الذين قام بشنقهم في ساحات الجامعات ومثل بجثثهم أمام الحاضرين ، ولن تنسى ذاكرة الليبيين أن القذافي كان يحرق شباب بني غازي المتمرد عليه بالنابالم من خلال الطائرات الحربية ، ولن تنسى ذاكرة الليبيين أن القذافي أمر بقتل ألف ومائتي معتقل سياسي في ليلة واحدة في سجن أبو سليم الرهيب ونقلهم إلى مقبرة جماعية ، ولن تنسى ذاكرة الليبيين أن القذافي وظف ثروات ليبيا في جلب معارضيه واختطافهم من العواصم العربية بشراء ذمم بعض القيادات السياسية والأمنية في تلك البلدان ليقوم بتصفيتهم بتشفي وحقد الجبناء ، لن ينسى الليبيون أن القذافي حول الغالبية العظمى من الشريحة المثقفة في ليبيا ، مئات الآلاف ، إلى مهاجرين ولاجئين في بلاد العالم ، في بريطانيا وأمريكا وكندا وإيطاليا وفرنسا وغيرها ، علماء وخبراء ومهندسون وأكاديميون وأدباء وأطباء على أعلى مستوى ، لأن وجودهم في ليبيا كان يعني الموت العاجل أو البطئ ، لن ينسى الليبيون أن القذافي دمر كل ما يمت للإنسانية بصلة في ليبيا ، الثقافة والفكر والأدب والفنون والعلوم والصحافة والإعلام ، ولا يصح هنا ذكر السياسة جملة وتفصيلا ، لن ينسى الليبيون أن القذافي حول بلادهم إلى مزرعة خاصة يحتلبها هو وأبناؤه ، الذين تحولوا إلى سوبر مليارديرات يرتع أحدهم بين العشيقات وأفخم منتجعات أوربا في الوقت الذي يئن فيه ملايين الليبيين من وطأة الفقر والحاجة وضيق ذات اليد ، حتى وصل الحال بالليبيين في بعض السنوات أن يقفوا في طوابير للحصول على الدجاج المجمد أو كيس من السكر أو المعكرونة ، ليبيا التي تملك فائضا من ثروات النفط يجعل كل مواطن فيها في ثراء أمير من أمراء أوربا ، كل ذلك نهبه القذافي متعمدا إفقار شعبه لإتمام إخضاعه وإكمال حلقات الإهانة . منتهى السخافة أن يتحدث بعض من كانوا يقتاتون على فتات ثروات القذافي المنهوبة من الشعب المسكين ، عن أن الغرب تحرش بالقذافي للاستيلاء على النفط ، وكأن القذافي كان يخبئ النفط في صحراء ليبيا لادخاره أو أنه كان يهديه إلى الشعوب المناضلة في بوركينا فاسو وزائير ، ولم يكن يبيعه وأحيانا يهديه إلى الأوربيين والأمريكان ، وكأن الشركات العملاقة العاملة في مجال النفط وغيره عند القذافي ليست الشركات الأمريكية والأوربية ، وكأنه ليس هو القذافي الذي كان يتعاون استخباراتيا على أعلى مستوى مع المخابرات الأمريكية ، وكأنه ليس هو القذافي الذي عاير رؤساء دول أوربيين بأنه كان يدفع لهم رشاوى من أموال الشعب الليبي ، وكأنه ليس هو القذافي الذي دعا الفلسطيين إلى القبول بالأمر الواقع أمام إسرائيل وقام بطرد اللاجئين الفلسطينيين في بلاده في ليلة واحدة ورماهم على الحدود المصرية ، وكأنه ليس القذافي الذي فتح بلاده للأمريكيين لكي يرسلوا بعثاتهم الفنية لتفكيك ونقل كل منشآت ليبيا للطاقة النووية بسعة صدر يحسد عليها . الأوربيون والأمريكان نصحوا "عميلهم" في البداية بعد سقوط بن علي ثم مبارك بأن يرحل بهدوء ، لأنهم أدركوا أن ربيعا عربيا جارفا بدأ في المنطقة العربية ، لكنه ركب رأسه وأصر على أن يحرق شعبه من جديد ويرسل طائراته تتسلى بقصف المدنيين كما العصافير ، فأحرج الجميع ، ولم يكن هناك من بد أمام المجتمع الدولي المذهول من فوران الربيع العربي إلا أن يعلن وقوفه بجوار الشعب الليبي ، كنوع من "غسيل السمعة" الدولية ، ثم تطور الأمر بعد تهديد القذافي بكشف ملفات تعاونه مع أجهزة تلك الدول والرشاوى التي كان يدفعها لكبار القادة فيها ، فقطع خطوط الرجعة أمام إصرار المجتمع الدولي على رحيله ، وحتى عندما ضاق الخناق عليه من شعبه ، أرسلوا إليه الوسطاء ونصحوه أن يذهب هو وأبناؤه بعيدا في مأمن ولو في دولة ليست عضوا في اتفاقية الجنائية الدولية ويترك شعبه يحكم نفسه ، لكنه ركب رأسه حتى النهاية ، وراهن على المفاجآت أو يأس الشعب أو يأس المجتمع الدولي أو نجاح الروس في تحويل الدفة ، حتى كانت النهاية التي هي عبرة لكل طاغية جبار . هذا يوم عيدكم أيها الليبيون ، افرحوا ملئ قلوبكم ووجوهكم واملأوا جنبات أرضكم الطيبة بهجة وبشرا وسعادة ، فقد آن لذلك البلد الطيب أن ينعم بالحرية والأمن والأمان والرفاه الذي طالما حرم منه وهو بين يديه ، آن لليبيين أن يعلنوا اليوم تحرير بلادهم من دنس الطاغية وزمرته ، وآن لهم أن يعلنوا البدء في مشروع حضاري عملاق ، سياسيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا وتنمويا ، وهم قادرون على ذلك بإذن الله في سنوات قليلة جدا ، لأن الثروة ستكون متوفرة ، والكفاءات الليبية الرفعية ستعود إلى بلادها لتزرعها بالخير والجمال والنهضة ، والله أكبر ، وعاشت ليبيا حرة أبية عربية إسلامية أصيلة . [email protected]