يعد الدكتور على حسنى الخربوطلى (1929-1991) من كبار المؤرخين المعروفين بغزارتهم فى التأليف فهو لم يقتصر على التأليف الأكاديمي للمتخصصين، وإنما كتب للخاصة والعامة، عمل أستاذاً للتاريخ الإسلامى فى كلية البنات بجامعة عين شمس، وهو من أعمدة مؤرخي العصر الوسيط الإسلامى له: "تاريخ الكعبة على مر العصور"، و"عبدالمطلب جد الرسول"، و"مصر العربية الإسلامية"، و"العرب فى أوربا"، وغيرها كثير. أما كتابه "المستشرقون والتاريخ الإسلامى" الذى صدر عن المجلس الأعلى للشئون افسلامية قبل 45عاما والذى سنعرض له فهو دراسة على جانبها من الأهمية مع ملاحظة طابعها المختصر، ولا نغفل دراسة موسعة للمستشرقين سبقته لنجيب العقيقي فى ثلاثة مجلدات وعدت مرجعاً شاملاً لإسهامات المستشرقين المتعددة، نجد أن قيمة هذه الدراسة تحقيقها فى زاوية التاريخ الإسلامى. ورغم ان مجال الاستشراق قتل بحثا وهناك دراسات ظهرت فى خلال هذه الفترة اتسمت بالعمق وبالميزان الإسلامى الدقيق فى تقييمه لأعمال هؤلاء الباحثين الذين درات حولهم بعضهم الشبهات والغرض وتعاونوا مع الدوائر الاستعمارية والتبشيرية ومراكز النصير بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم، وقد ركز أساتذة الجامعات فى هذه الفترة من النصف الأول من القرن العشرين على أبحاث هؤلاء المستشرقين وانزلوها منازل عليا فى درساتهم التى كانت تفرض فى الجامعات ويرسب فيها من يعارضها ويرد عليها وقد ساروا على نهج سيدهم الأول طه حسين الذى طالب بأخذ كل شىء من الغرب حلوه ومره وما يحمد منه وما يعاب، فنجد شخصية مثل الدكتور عبدالمنعم ماجد أستاذ التاريخ فى جامعة عين شمس، وزميل الدكتور الخربوطلى يردد شبهات غلاة المستشرقين فى كتابه "الدولة العربية" وقد رد عليه الشيخ الغزالى، والأستاذ على عبدالعظيم، ومنهم حسن إبراهيم حسن، وعلى إبراهيم حسن، وأحمد شلبى، غيرهم كثير .. ويتكون الكتاب من خمسة فصول تناول فى أولها تعريف المستشرق، فبالرغم من تعدد الكتب التى تحدثت عن المستشرقين إلا أنها رغم قيمتها العلمية ورغم تعدد جوانب دراستها ، لم تقدم للقارىء تعريفاً ثابتاً للمستشرق، وبعد أن ذكر الآراء التى عرفت المستشرق توصل إلى التعريف المستشرق هو "عالم غربي يهتم بالدراسات الشرقية"، وذكر كذلك الشروط الواجب توافرها فى المستشرق العالم المتخصص المتعمق حتى ينتج ويفيد البشرية والحضارة بإنتاجه العلمى ولابد أن ينتمي هذا العالم إلى الغرب ولو كان هذا العالم يابانيا أو إندونيسياً أو هندياً لما استحق أن يوصف بالمستشرق لأنه شرقي بحكم مولده وبيئته وحضارته وقد تكون الدراسات الشرقية التى يقوم بها المستشرق تاريخاً أو فلسفة أو آثاراً أو اقتصاداً ولكنها ترتبط بالشرق وليس من الضروري أن يرحل المستشرق إلى الشرق ليعيش فيه أو ليتطبع بطباعه وحضارته ، فقد يقوم بدراساته فى جامعته الغربية أو فى وطنه وإن كان رحيله إلى الشرق يجعل دراساته أكثر فائدة وأقرب إلى الواقعية والحقيقية وليس من الضروري أن يعتنق هذا المستشرق الإسلام أو أحد الأديان السائدة ، كما أنه ليس من الضروري أن يتحدث باللغات الشرقية ، وإن كان الإلمام بها أو إجادتها يعينه كثيراً فى دراسته وأبحاثه.
وبين المؤلف أن الاستشراق فى بدايته كان هواية يهواها بعض الأوربيين الذين جذبهم الشرق بسحره وأسراره ومميزاته الحضارية الخاصة وأقترن الاستشراق بحب الرحلات إلى الشرق وأصبحت كتب هؤلاء النفر من المستشرقين أقرب إلى الكتب الوصفية أو كتب الرحلات، فاهتم المستشرق بحشد ما هو غريب أو عجيب مما يثير تشويق الأوربي ويدفعه للإطلاع على هذه الصورة من الحياة التى تخالف صور الحياة المألوفة، كما اتجه بعض الأوربيين أيضاً نحو الاستشراق بدافع من التعصب الدينى أو التعصب القومي، ولكن الاستشراق فى العصر الحديث أصبح حرفة، واتخذ الطابع العلمى المنظم، وأصبح له قواعده وأسسه المنهجية، نتيجة التطور العلمى، واختلاف الظروف السياسية فى العالم، ونهضة الشرق، وتطور العلاقات بين الشرق وعالم الغرب، لذا أصبح المستشرق فى القرن العشرين يختلف عن المستشرق فى العصور الوسطي أو فى مطلع العصور الحديثة.
وفى الفصل الثانى يرصد المؤلف (مراحل الاستشراق فى التاريخ الإسلامى) بعد أن سرد المؤلف آراء غيره من العلماء حول بداية الاستشراق فى التاريخ الإسلامية فمنهم من يقول أنه بدأ مع بداية الأطماع الاستعمارية للعالم العربي الإسلامى فى أواخر القرن الثامن عشر حينما ضعفت قبضة الدولة العثمانية، منهم من يقول أنه بدأ مع مجيء الحملة الفرنسية حينما اصطحب نابليون جيشاً من العلماء والمستشرقين الذين تخصصوا فى فروع عديدة من المعارف، ولكنه يعزو البداية الحقيقية ويرى أن البداية الحقيقية قد بدأت منذ العصور الإسلامية المبكرة وفى رأيه أن الاستشراق هو اهتمام بالدراسات الشرقية وقد يأخذ هذا (الاهتمام) صورة الأخذ والعطاء والفكرة الشائعة بين الكثيرين أن الاستشراق هو أن يقدم المستشرقون إنتاجهم الفكري لأبناء الشرق، ولكنه يرى أن ذلك هو جانب واحد من الاستشراق، ويرى أيضاً..
وتحدث فى الفصل الثالث بإسهاب عن دوافع الاستشراق، وقسمها إلى دوافع دينية واستعمارية وعلمية وبين عوامل اختلاف هذه الدوافع والظروف المحيطة بها، وعقد مقارنة بينها، وأشار إلى موقف العرب والمسلمين من الاستشراق بصوره المختلفة، كما تحدث أبرز المستشرقين فى كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة..
وفى الفصل الرابع، قام الدكتور الخربوطلى بتصنيف المستشرقين .فليس كل المستشرقين سواء فى أهدافهم واتجاهاتهم وميولهم، فهناك طائفة منهم أنصفت الاسلام والرسول صلى الله عليه وسلم والتاريخ الاسلامى، وقدمت لنا أبحاثاً ذات قيمة علمية كبرى، ورأينا فئة ثانية تعمدت الإساءة إلى تاريخنا وحضارتنا وإن كانت قدمت فى نفس الوقت إلى مكتبتنا أبحاثاً هامة، أما الفئة الثالثة من المستشرقين فقد وقعت فى الزلل والخطأ أيضاً بدون قصد أو عمد نتيجة جهل أو سوء فهم أو قصور فى الدراسة..
وقام فى الفصل الخامس بتقييم جهود المستشرقين فى التاريخ الإسلامى، فتحدث عن المزايا والصفات التى اتصف بها المستشرقون وميزت أبحاثهم ثم درس جهود المستشرقين فى الاهتمام بالتراث العربى الاسلامى واهتماماتهم فى إنشاء المطابع وإصدارات المجلات العلمية وعقد المؤتمرات ثم خصصنا الحديث عن دائرة المعارف الاسلامية، وقد اعتمد الدكتور الخربوطلى الحيادية والنزاهة ولم نجد منه اندفاعا ولا تجريحا لأحد..