المشكلة القائمة في العالم العربي ليست فقدان الحريّة فقط وقيام أنظمة تسلّطية فيها وإبقاء الشعوب في حفرة التخلّف وتحت سوط الحرمان وفي غياهب النسيان. فقد ذكر التاريخ لنا نماذج عديدة عن مجتمعات ودول حكمها رؤساء وملوك وأمراء شموليين، ديكتاتوريين، أو سمّهم ما شئت، لكنّ هؤلاء كان لديهم حد أدنى في إدارة شؤون الدولة ودفعها إلى صدارة الدول الكبرى، وتحديد الخطوط العريضة لسياساتهم التي تشتمل تعريف العدو والصديق واستثمار عوامل القوّة رغم تسلّطهم على شعوبهم. في الإطار العربي لا شيء من هذا موجود، فلا سياسات عامّة محدّدة، ولا جهود لدفع البلد إلى صف الدول الكبرى، ولا تحديد للعدو والصديق ولا شيء من هذا. ولذلك فلا استغراب من غياب العرب عن الساحة المحليّة والإقليمية والدولية ولا عتب على احتقار الآخرين لنا، فمن يهن يسهل عليه الهوان. البرنامج النووي الإيراني هو أحد المواضيع التي غاب عنها العرب طويلا رغم أن الموضوع خطير، ومع ذلك تجاهل العرب ذلك، إلى أن ظهر أخيرا موقف سعودي تلاه موقف مصري. صحيح أنّ إصدار موقف هو تطور إيجابي، لكنّ ذلك لا ينقض كلامنا عن عدم وجود سياسة ثابتة وواضحة، فالموقف لا يعني سياسية، إنما هو مجرد رد فعل. على العموم ما يميّز الموقف المصري والسعودي الذي صدر أخيرا هو الصراحة، فقد قال وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل لهيئة الإذاعة البريطانية "أعتقد أن الغرب حين سمح لإسرائيل ببناء قدراتها النووية أحدث الضرر الذي نعاني منه جميعا الآن"، وهذا كلام حكيم وسليم وفي مكانه ويسلّط الضوء على النووي الإسرائيلي المسكوت عنه، وفي نفس الوقت يحمل الغرب مسؤولية ما يحدث من تطورات، وهو شبيه بالموقف المصري أيضا، والذي صدر بعد الموقف السعودي بعدّة أيام. لكنّ السيئ في الأمر هو الاكتفاء بهذا الموقف دون لعب دور فعّال في القضية النووية الإيرانية، وهو عكس ما كان الحال عليه مع الدول الإقليمية المحيطة بكوريا الشمالية. فرغم أن هذا الموقف الأخير للسعودية ومصر إيجابي إلا أنه لا يكفي، وعلى العرب تحضير سياسيات بديلة في حال فشل المفاوضات الغربية مع إيران وامتلاكها للسلاح النووي، كما عليهم أن ينبذوا الاسطوانة التي ما فتئنا نسمعها من أن السلاح النووي خطر ولا يجب امتلاكه. فأسلحة الدمار الشامل كلها خطرة، بل إن الكيماوية أخطر من النووية، ولا يجب النظر إلى الموضوع وفق هذا المنظور، بل من زاوية إما أن يكون هناك حظر شامل على دول المنطقة، وإما أن نكون من أوائل من يحصل على هذا السلاح. ولا عيب في ذلك، بل على العكس يجب امتلاك القدرات والتقنية النووية وتنميتها وتطويرها، ويجب أن تصاغ سياسية قوميّة عليا للدفاع عن أوطاننا وشعوبنا. واعتماد بعض الدول العربية على السلاح التقليدي وإنفاق المليارات من الدولارات التي كان من الممكن أن تؤمن لنا قدرات نووية متطورة منذ زمن بعيد، لشراء الخردة من الأسلحة الأمريكية والمقرونة بشروط تعجيزية -و التي لا يتم استخدامها دون إذن أو إشراف أمريكي- هو أمر غاية في العجز، ولا يؤمّن عاملا رادعا ولا يحمي لا النظام ولا الشعب ولا الوطن ولا الأرض، كما هو الحال في الاعتماد على الغطاء العسكري الأمريكي الذي لا يقدم ولا يؤخر، والحالة الكورية الجنوبية خير دليل على ذلك. فالغطاء الأمريكي لكوريا الجنوبية غير قادر على تأمينها في حال شنّت كوريا الشمالية هجوما على كوريا الجنوبية. الحل يكمن في تحويل المزارع العربية إلى دول حقيقية لها حد أدنى من السياسات العامة والخطط المستقبلية الإستراتيجية، والأهم من هذا كله الاعتماد على الذات وتطوير القدرات المحلية لأنها الوحيدة القادرة على تحصين البلاد. فلا سلاح الخردة التقليدي ولا أموال البترول قادرة على تأمين ما يستطيع شبابنا وعلماؤنا ومفكرونا عمله إذا أعطوا الفرصة لذلك. فالعرب لديهم كل الإمكانيات المادية والعلمية إذا ما أرادوا. لا يغرّنكم الموقف الغربي الرافض لحصول إيران على القدرات النووية. وبالمناسبة هي ستحصل في النهاية على هذه القدرات، لكن حسابات الغرب تقول طالما أن هناك فرصة لمنعهم من الوصول، فلماذا لا نحاول ذلك؟ الغرب يريد فقط أن يحصل على ضمانات بعدم تعرَض إسرائيل لشيء، وأن لا تزاحم إيران الدول الكبرى في السيطرة على المنطقة. ورغم أن إيران لن تمس إسرائيل، إلا أنها ليست مستعدّة لتقول للغرب نعم نحن لن نمس بإسرائيل، بل على العكس، من مصلحة الإيرانيين أن يقولوا نعم نحن سندمّر إسرائيل، وهنا يتسابق الغرب في العروض المقدّمة لإيران، هذه هي الألعاب السياسية، وهذه هي الطريقة الصحيحة للوصول إلى الهدف، وإيران تمضي في الطريق الصحيح. الغرب لم ولن يعطي أي دولة عربية أي فرصة أو عرض من العروض التي يقدّمها لإيران، فيما لو سعت هذه الدولة العربية للوصول أو الحصول على السلاح النووي؟ هل تساءلتم يوما لماذا؟ العراق لم يُعطَ أي فرصة وتمّ قصفه وتدمير قدراته النووية في الثمانينات، واغتيال العلماء الذين كانوا قائمين على البرنامج النووي العراقي أثناء وجودهم في الخارج. لكن مقارنة بالنووي الإيراني، فإن الدور الإسرائيلي في تزويد إيران بتقنيات ومعدّات نووية لا يستهان به على الإطلاق، بل إنه إذا راجعنا معظم الصفقات التسلحيّة السرية لإيران، سنجد على الأقل اسما لأحد الفاعلين الإسرائيليين في الموضوع، والذي يعمل على تسهيل حصول إيران على ذلك. إن التسلح الإيراني في جزء مهم وخطير منه مصدره إن لم يكن إسرائيل فهو من تجّار سلاح إسرائيليين، وفضيحة "إيران جيت" ليست استثناء، ولازال الإسرائيليون يمدّون إيران بالسلاح، ومن محاولاتهم مؤخرا تهريب شحنة من الأسلحة والقطع المعدّة لتجميع مجنزرات وآليات عسكرية من إسرائيل عبر ألمانيا إلى إيران، وقد تمّ اكتشافها، وذكرت وزارة الدفاع الإسرائيلية أنها خُدعت ولم تكن تعرف أن الشحنة متوجهة إلى إيران، لا بل إن هناك دورا لتجّار سلاح إسرائيليين في بيع إيران أسلحة ومواد وتجهيزات نووية حديثا، ومن بينهم "ناحوم فيدفر"، وغالبا ما تتم الاتصالات بين إيران وإسرائيل عبر يهود إيران أو حتى بعض النافذين في السلطة الإيرانية. بل إنه في ذروة التلاسن السياسي بين تل أبيب وطهران، والسجال الإعلامي حول المحرقة، نشرت صحيفة معاريف العبرية في عددها الصادر يوم 15 / 11 / 25 مقالا عن تعاون علمي بين الدولة العبرية ودول المنطقة سيشمل إيران أيضا، وهو متعلق بما يسمى إقامة محفزات للجزئيات، وتستخدم بحوثه في مجالات الكيمياء والفيزياء والطب، وحسب المقالة التي نشرتها معاريف فإن إيران وتركيا والدولة العبرية ستقوم بتمويل هذا المشروع الذي تصل تكاليفه إلى عشرة ملايين دولار، فهل هذه هي الطريقة في التعامل مع ما يفترض أنّهم أعداء حتى النخاع! في النهاية، لا نلوم إيران إذا ما حصلت على السلاح النووي، وإنما اللوم يقع العرب الذين ما نجحوا في أي قضية. المصدر : العصر