ربما كان من أشد جرائم نظام مبارك الجنائية والسياسية (وأخطر الثمار المرّة لحكمه) هي تلك "الدولة الرخوة" التي تركها؛ وتركنا نعاني آثارها الوخيمة؛ ونكابد ثمارها المرّة التي وصلت بأحداث ماسبيرو إلى حد قتل الجنود وتهديد الدولة ذاتها. ومصطلح الدولة الرخوة نحته عالم الاجتماع السويدي جنار ميردال في كتابه عنها عام 1970 وأفضل من كرّسه بالعربية عالم الاقتصاد المصري الدكتور جلال أمين في كثير من كتبه ومقالاته حيث يؤكد دائما أنها سبب البلاء الأعظم، وأنها السبب الأساسي لاستمرار الفقر والتخلف. والدولة الرخوة هي الدولة التي تنوب عنها حكومة تصدر القوانين، لكنها في الغالب لا تطبقها. فما بالنا بحكومة مقصّرة حتى في إصدار القوانين العادلة التي تنظم الخلافات المجتمعية والسياسية؛ وتعمل على إدارة الشأن المجتمعي بكفاءة ونزاهة. المجزرة التي حدثت أمام ماسبيرو قبل يومين تفرض على المجلس العسكري الذي يقود الدولة المصرية في الفترة الحالية أن يكفّ عن اتباع نفس السياسات العقيمة لمبارك ونظامه البائد؛ تلك السياسات الفاشلة والخاطئة التي أوصلتنا إلى ما أوصلتنا إليه من دولة تنتهك سيادتها؛ يغتال الإسرائيليون جنودها على الحدود؛ ويقتلهم الطائفيون والمحرضون في الداخل؛ دولة لا تتعاطى مع الأحداث إلا ردود أفعال وتصر على اتباع أساليب في معالجة الأزمات (والمشكلات الاجتماعية والسياسية) أثبتت الأيام والحوادث فشلها. إن نقطة البدء الصحيحة فيما أعتقد هي الانطلاق من تشخيص المشكلة تشخيصا دقيقا وهي اعتبار المشكلة مشكلة اجتماعية وسياسية خاصة بمطالب فئوية لا أساس قانوني لها؛ مطالب تعتمد سياسات لي ذراع إدارة الدولة وفرض الأمر الواقع؛ وليست مشكلة طائفية خاصة بشريحة معينة ذات دين مختلف عن دين أغلبية المجتمع؛ هذا أمر. الأمر الثاني: إن الفرق بين الإدارة السياسية الواعية التي تحسن إدارة الأزمات والإدارة الفاشلة (التي تدير الدولة بالأزمات) أنه في الأولى تتعامل الدولة مع الأزمات قبل حدوثها؛ بما يمنع وقوع الأزمات ذاتها؛ أما في الثانية فتتعاطى الدولة مع الأحداث بالواحدة (حدث – حدث؛ مصيبة – مصيبة). إن الإدارة بالأزمات (الإدارة الفاشلة) تكتفي بلعب دور رجل المطافي الذي لا يسمع بالأزمة إلا بعد وقوعها ؛ ولا يتحرك لإطفاء النيران إلا بعد اندلاعها. الأمر الثالث: إن اتباع نفس سياسات مبارك القديمة لا يحل المشكلة؛ وإنما يكتفي بإطفاء النيران على السطح، ويبقى تحت الرماد وميض نار يوشك أن يكون له ضرام. ولا تلبث النيران أن تشتعل مرة أخرى مع أول مواجهة حقيقية أو مفتعلة. الأمر الرابع: إن مصر بعد ثورة يناير (لسوء إدارة المجلس العسكري والجناح المدني مهيض الجناح الذي يأتمر بأمر المجلس) على شفا حريق هائل وتكشف لنا الأحداث يوما بعد يوم فشل كلاهما (المجلس والحكومة) في إدارة شؤون البلاد والتعامل مع ملفات معقدة ومتشابكة على الساحة المصرية بعضها يصل بالدولة إلى مرحلة التهديد الوجودي. الأمر الخامس: إن ما حدث أمام ماسبيرو وإن اتخذ شكلا طائفيا إلا أنه أمر له جذور عميقة في الواقع الاجتماعي؛ وله تداعيات مؤثرة في الوعي المعاصر؛ وله امتدادات واسعة في الذاكرة التاريخية الملتهبة بالتمييز (ولنقلها صراحة) الذي أحيانا ما يكون ضد الأغلبية. الأمر السادس: إن إدارة الدولة المصرية في مفترق طرق: إما دولة القانون التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون وسيادته أو دولة طائفية تعتمد سياسات ليّ الذراع والتهديد بالاستعانة بقوى خارجية ضد الدولة التي لا تخضع لمطالب الغوغاء والمحرضين. الأمر السابع: تفعيل القوانين ولا شيء غيرها هو "طوق النجاة" في تلك الفتن المظلمة كقطع الليل؛ فتن لا تبقي ولا تذر. وتنفيذ القانون على المخطئ (الكبير قبل الصغير) أيا كان دينه أو تياره السياسي؛ أما المساومات ومَسك العصا من المنتصف والالتقاء في منتصف الطريق (سياسات مبارك) فهو الأمر الذي كرس شعورا بالظلم متبادل واحتقانات عميقة لا تنتهي حتى تبدأ. الأمر الثامن: في مظاهرات الجمعة التي تم فيها اقتحام مبنى سفارة الكيان الصهيوني حمّل كثير من الناس من دعوا للمظاهرة مسؤولية الأحداث؛ وكان رأي الشخصي أنها مسؤولية الدولة في المقام الأول فليس من العدل مطالبة الأفراد بحماية المنشآت ولا السفارات ولا قِبَل لهم بذلك. إنما الغريب أننا لم نسمع نفس تلك الأصوات لتحمّل من دعا إلى مظاهرات ماسبيرو تداعيات ما حدث. مما يثبت أن التطفيف والهوى والكيل بمكايل بعدد الحالات هو الحاكم وليس القانون العام المجرد الذي ينطبق على جميع الحالات. الأمر التاسع: الدولة القوية ليست هي الدولة التي تدهس مواطنيها تحت عجلات مجنزراتها؛ ولا الدولة التي تفتح النيران على المتظاهرين وإن أساؤوا؛ إنما الدولة القوية التي تسيطر على الأوضاع بقانون حماية الفضاء العام أن ينتهك واشتراط سلمية المظاهرات؛ ومحاكمة كل من حمل سلاحا يهدد به الآمنين. الدولة القوية ليست هي الدولة التي تستسهل إراقة الدماء؛ والمواطنون تتكافأ دمائهم وأعراضهم وأموالهم. الأمر العاشر: إن أي حل سياسي واجتماعي لابد أن يستوفي شرطين: الأول: أن تكون سياسات عادلة؛ فلا جور في الحكم؛ ولا تطفيف في الميزان. الثاني: أن تكون سياسات توفر الحد الأدنى من الأمن الاجتماعي الذي يحفظ سلامة النظام العام؛ وبنيان المجتمع من التهدم. كلمة أخيرة: من علامات الدولة الرخوة (كما يقول الدكتور جلال أمين) أن تنشر الصحف المقالات الناقدة وألا تلتفت الحكومة وأجهزتها المختلفة لأي من هذه المقالات، مدعية أن للصحافة أن تنشر ما تشاء، فهذه حرية الصحافة في دولة ديمقراطية، وأن الحكومة لها أن تطنش كما تشاء، فهذه طبيعة الحكومة في الدولة الرخوة.