بعد مرور ثلاث سنوات على حادث الاغتصاب الجماعي المروع لفتاة في دلهي والذي جذب الانتباه لمشكلة الاعتداء الجنسي بالهند، ظهر في أحد الأفلام الوثائقية أحد المغتصبين وهو يقول كلامًا شديد السوء لدرجة أنه أثار موجة جديدة من العنف الآن. “الفتيات مسئولة أكثر من الشباب عن وقوع حالات الاغتصاب”. هذا ما قاله موكيش سينج – وهو واحد من ستة مغتصبين تمت إدانتهم في حادث عام 2012 – في الفيلم الوثائقي، ثم أضاف: “الفتاة المهذبة لن تتجول في الشارع حتى الساعة التاسعة مساءً”. وقال أيضًا: “العمل المنزلي وتدبير شئون المنزل فقط للنساء، وليس التجول والذهاب للحانات والديسكو ليلًا وفعل أشياء خاطئة، وارتداء ملابس غير لائقة. فقط حوالي 20% من الفتيات مهذبات”. “وإذا لم تكن النساء جيدات فعلى الرجال تلقينهن درسًا” باغتصابهن. وعلى النساء تقبل الاغتصاب بصمت إذا حدث معهن”. عندما كان يتم اغتصابها، لم يكن عليها أن تقاوم. فقط لتلزم الصمت وتسمح بالاغتصاب”. ما جعل التعليقات وردود الفعل شديدة الغضب لهذه الدرجة، ليس فقط ما قاله أحد المغتصبين من تعليقات فظة وإلقاءه باللوم على الضحية، بل مدى شيوع ذلك الرأي المزعج في الهند، ووجود مواقف مبدئية ورئيسية من العداء تجاه المرأة، بالإضافة لإفلات من يمارس العنف من الرجال ضد النساء من العقاب في أغلب الحالات. استبيان: رجل من كل أربعة رجال في الهند اعترفوا بارتكابهم الاغتصاب قال سينج هذه التصريحات في الفيلم الوثائقي “ابنة الهند” والذي أُذيع مؤخرًا على قناة BBC. ففي حادث عام 2012 جذب سينج وخمسة رجال آخرون معه فتاة بداخل حافلة ثم تناوبوا اغتصابها، وعاملوها بعنف شديد لدرجة أنها ماتت متأثرة بجراحها بعد ذلك. كان حادث الاغتصاب بدلهي عام 2012 مثالًا شديد الوضوح على الاعتداء والعنف الجنسي، مما بث ونشر الخوف بين نساء في الهند. وقد تكررت حادثة مشابهة قريبًا في مدينة روهتاك بقيام ثمانية رجال باغتصاب امرأة وضربها حتى الموت. أظهرت دراسة أُجريت في عام 2011 أن تقريبًا رجلًا من كل أربعة رجال في الهند اعترفوا بارتكابهم الاغتصاب ممن أجروا الاستبيان، مما يجعل الهند أعلى في هذا الصدد من أي دولة أخرى شاركت في عينة الاستبيان. ويقود هذه المشكلة قطاع عريض من الهنود المحافظين بتبني الرأي القائل بأن المرأة يجب أن تلتزم ببعض العادات الاجتماعية المحافظة، وأن الاغتصاب سببه النسوة “السيئات” اللائي يتجاوزن تلك العادات. وفي نفس الوقت، تقوم القوى الداعية للتحديث الثقافي بدعوة الكثير من النساء الهنديات للتصرف بطرق يراها المحافظون تعديًا على التقاليد، مثل المواعدة وتأخير سن الزواج والحصول على الوظائف. وهذا ما يجعلهن يستحققن الاغتصاب. فما يحدث ليس فقط مجرد لوم الضحية ومسامحة الجاني، بل أن جزءًا من النظام القانوني والشرطة يؤيد وجهة النظر المتسامحة مع الاغتصاب، والتي وفقًا للمحافظين تدور حول فرض رؤيتهم بأن تلتزم المرأة بدورها “اللائق بها” في البناء التقليدي للأسرة (والذي يعني الخضوع). في الفيلم الوثائقي لم يبدِ سينج – المحكوم عليه بالإعدام لدوره في الجريمة – أي ندم على ما قام به. وقد وضح أن مقتل الضحية كان خطأها بالأساس: لأنها إذا كانت أذعنت بهدوء للاغتصاب، فكان سيلقيها الرجال في الطريق بعد أن ينتهوا منها. وقد قامت الحكومة الهندية الآن بمنع الفيلم الوثائقي. بزعم أن الفيلم قد يثير البلبلة وينشر الفوضى في البلاد، مما يعني أن المسئولين يخافون من عودة المظاهرات الضخمة التي وقعت في عامي 2012 و2013 كرد فعل على جريمة الاغتصاب. وتخوفاتهم تلك غير مفهومة؛ فالاعتداء الجنسي مشكلة كبيرة في الهند والغضب الناتج من هذه المشكلة ومن فشل التعامل معها لا يزال كبيرًا. الاعتداء الجنسي أصبح نقطة خلاف واضحة في الصراع السياسي الكبير في طريقة تغيير العادات الهندية، مع تحضر الدولة أكثر وترك العديد من التقاليد. وقد ظهر نوع من الحرب الثقافية في البلاد. وعلى جانب هذا الصراع ظهرت مشكلة الاعتداء الجنسي كسلاح لإجبار النساء الهنديات على الالتزام بما تُمليه التقاليد، وتبعًا عليه إجبار المجتمع ككل على الالتزام بها. جاء ذلك مع لوم مؤسسي مقلق للضحية مع السماح للمعتدين بالإفلات من العقاب، مما سيسمح بانتشار الاعتداء الجنسي أكثر. الأمر لا يتعلق بالجنس بل بالتحكم والقوة والعنف أعطى تعليق سينج موجزًا دقيقًا للمنطق التقليدي – بشكل غير معتاد في الهند – والذي يؤكد أن الاعتداء الجنسي هو نتيجة تعدي بعض النساء لقواعد السلوك المحافظة. وهذا الرأي لا يلوم النساء فقط على الاغتصاب الحادث لهن، بل يتبنى منطقًا يؤدي لاعتزال النساء للحياة العامة كلها، مما يؤدي لتخليهن عن أي مساهمة في الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية بشكل عام. وقد قال الكاتب الهندي صليل تريباتي أن حوار سينج وضح النظرة الحقيقية للاغتصاب في الهند – كما في العديد من البلدان الأخرى كذلك. “الأمر لا يتعلق بالجنس بل بالتحكم والقوة والعنف”. هذا يساعد في فهم لماذا أثار حوار سينج هذا القدر من رد الفعل الغاضب. فتعليقاته تمثل بدقة ما يناضل ضده العديد من النساء الهنديات بشدة. لماذا يرى البعض في الهند الاغتصاب بأنه مسموح؟ أصبح موضوع الاغتصاب نقطة صراع سياسي كُبرى بين تيار التمدن والطبقة الوسطى – الآخذ في الصعود والازدهار – وبين تيار المحافظين – المكون في الأغلب من كبار السن وسكان المناطق الريفية – الذين لا يزالون يسيطرون على أغلب مؤسسات الدولة. هذا الشيء مجرد نقطة في حرب ثقافية أكبر في الهند قائمة على التحول الثقافي والسياسي للبلد. وهو التحول الذي يعارضه الكثير من المحافظين بشدة وبقتالهم حول موضوع الاعتداء الجنسي، فهم يقاتلون أيضًا ليبقى المجتمع الهندي محافظًا كما هو. يميل المحافظون الهنود لاعتبار الاغتصاب مسألة شرف جماعي وأخلاقي. فبالنسبة لهم علاقات النساء الجنسية يجب أن يتم تحديدها بواسطة الأهل عندما يختاروا لابنتهم زوجها، ثم بواسطة زوجها بعد الزواج. فالقرار الجنسي المشروع الوحيد للمرأة هو في طاعتها لعائلتها. ووفقًا لهذا الرأي فالاغتصاب أمر ناتج من السلوك المتجاوز للمرأة الضحية – وأحيانا بسبب الإغراءات الخبيثة للحياة العصرية. وذلك حين تضع المرأة نفسها في مواقف تتعامل فيها مع رجال خارج رقابة أهلها. وفي هذا الرأي فالاغتصاب قد يكون مُبررًا ومقبولًا ويكون المُغتصِبون أبرياء من أي جرم. بالضبط كما قال موكيش سينج في الفيلم الوثائقي. وطبعًا، طبقًا لهذا المنطق فالاغتصاب قد يُرى كخدمة تُقدم للمجتمع: بمعاقبة النساء صاحبات السلوك “السيء” وإخافة النساء اللاتي قد يفكرن في اتباع نفس السلوك. وبالرغم من اتجاه الهند للتمدن أكثر وارتفاع مستوى التعليم عما قبل وزيادة ثروات البلد، فلا زالت العديد من النساء تكافح في سبيل حريتها – والتي تبدو كسلوك سيء بالنسبة للمحافظين – ومنها تأخير سن الزواج لتحصيل مستوى تعليمي أعلى، والعمل خارج المنزل، وإنشاء علاقات اجتماعية علنا مع رجال من خارج عائلتها. وبالنسبة للمحافظين فهذا الفعل يهدد النظام الاجتماعي الذي يسعون للمحافظة عليه، والذي تكرس فيه النساء لحياتهن الخاصة فقط وتكون حياتهن الاجتماعية في محيط العائلة وحسب. الإجبار على النظام الاجتماعي المحافظ، غالبًا ما يعني لوم الضحية وتبرئة الجاني قد يبدو أمرًا شديد الوضوح ومسلمًا به: أن الاغتصاب يجب أن يُمنع عن طريق معاقبة المُغتصبين مما يجعل الهند مكانًا أكثر أمنًا للنساء. لكن المحافظين يرون هذه السياسات تجعل الحياة العامة أكثر أمنًا للنساء على أنها تحمل العديد من المتاعب معها. لأنها قد تؤدي لتآكل النظام الاجتماعي والذي بالنسبة للمحافظين هو محور كل شيء. فلماذا تحمل عناء محاولة تغيير المجتمع ليتقبل مشاركة نسائية أكبر، إذا كانت المشاركة النسائية بالنسبة لهم أمرًا سيئًا من الأساس؟ وتفهم وجهة النظر هذه مهمة لتفهم المنطق الذي يبرئ المغتصبين من جرمهم. ولذلك يميل المحافظون لرؤية أن الحل المناسب لمشكلة الاغتصاب، هو الحد من حرية المرأة. على سبيل المثال بحرمانهن من الحياة الاجتماعية والتي يرى المحافظون أنها تؤدي للاغتصاب. وهذا يعني منع النساء والفتيات من المشاركة في الحياة العامة وخاصة إذا لم يكن تحت إشراف أهلهن الذين يحرصون على تصرفهن بسلوكيات لائقة. وبإحالة المسئولية على النساء، فهذا يعني أن الاغتصاب خطأ الضحية وليس الجاني. على سبيل المثال، ففي عام 2012 طلبت منظمة مجالس قروية في مقاطعة هريانا من الفتيات الزواج قبل الثامنة عشرة من عمرهن لمنع الاغتصاب -والذي عزوه للسلوك الجنسي المبكر للفتيات اللاتي يشاهدن أشياء مبتذلة في التلفاز والسنيما. والهواتف المحمولة أيضًا يتم اعتبارها كمصدر غير أخلاقي خطير؟ وقد فسر زعيم مجلس قروي يدعى كهاب بانشيات في مقاطعة هريانا لجريدة نيويورك تايمز أن “الهواتف المحمولة تلعب دورًا رئيسيًا – في الاعتداءات الجنسية – لأن الفتاة تجلس في الحافلة، وتتحدث لصديقها وتطلب منه نقل مبلغ مالي في هاتفها. فهل سيضع مالًا في هاتفها بلا مقابل؟ لا، بل سيقابلها في مكان ما مع خمسة من أصدقائه ثم سيطلقون على ما يحدث اسم اغتصاب”. حرية التجول ليلًا في الهند، ليس معناه أن تقوم النساء بمغامرات بعد حلول الظلام في بوبال – مدينة في الهند – تم انتقاد أخلاقيات عمل وحدة شرطية متنقلة – بعد اعتداءات دلهي – لأفعالهم تحت مصطلح منع الاعتداءات الجنسية. فقد تم الإبلاغ أنهم يستهدفون الفتيات، والرفقاء الذين يرتدون ملابس تبعًا للموضة، ويوقعون عليهم عقوبات تتضمن الصفع وإجبارهم على الجلوس على الأرض عقابًا على تجاوزاتهم المتخيلة. لا يتضمن الأمر الساسة الذكور فقط، بل إن ساسة من الجنسين ينتهجون آراء مماثلة. فمثلًا آشاة ميرجي القائدة بحزب المؤتمر الوطني في مقاطعة غرب ماهرشتراة ادعت في عام 2014 أن حوادث الاغتصاب تقع “بسبب ملابس المرأة وسلوكها وتواجدها في أماكن غير لائقة”. والقيادي في حزب المؤتمر في مقاطعة أنديرا بارديش انتقد ضحية حادثة الاغتصاب في دلهي لأنها خرجت في الليل وقال: “حرية التجول ليلًا في الهند، ليس معناه أن تقوم النساء بمغامرات بعد حلول الظلام”. وهذه عبارة منمقة لكن تحمل نفس معنى ما قاله موكيش سينج في الفيلم الوثائقي. لجنة فيرما ومحاولة حل مشكلة الاعتداءات الجنسية ردًا على حادث الاغتصاب بدلهي عام 2012 أنشئت الحكومة المركزية فيرما – وهي لجنة مؤلفة من ثلاثة أشخاص برئاسة رئيس المحكمة العليا السابق ج.س. فيرما – للتحقيق في كيفية تطوير القوانين الهندية لمقاومة الاعتداءات الجنسية. التقرير الصادر عن اللجنة رصد ما هو أكثر من مجرد القوانين: فقد وجد أن الشرطة في الهند أنشأت ثقافة فرعية من القهر ضد ضحايا الاغتصاب. ونتيجة الكلام الذي أُثير حول تحقيقات حادث 2012 فقد كشفت مجلة تهيلكا وجود اعتقاد شائع في الشرطة بأن ضحايا الاغتصاب الحقيقيين لا يلجؤون للشرطة وأن من يفعلون ذلك هم المبتزون أو من فقدوا القيم الأخلاقية”. فقد أكد العديد من الضباط أن المرأة إذا رضيت بممارسة الجنس مع رجل واحد، فلا يمكنها الاعتراض إذا اشترك معه بعضٌ من أصدقائه. وفي قضية أخرى فاضحة حاولت الشرطة في مدينة كلكاتا سرقة جثة فتاة شابة تعرضت لاغتصاب جماعي ثم تم قتلها، فيما يبدو لتدمير الأدلة المشيرة للاغتصاب، والذي سبَّب إحراجًا لهم بعد إثبات أن الضحية ماتت جراء ذلك، فقاموا باتهام الضحية بأنها كانت تعمل بالدعارة. بعد حادث الاغتصاب الجماعي بدلهي عام 2012، عندما قامت العديد من المظاهرات ضد مشكلة الاعتداءات الجنسية بالهند وتبرئة الجناة، كان مما جذب الانتباه هو القوانين التي تعبر عن القواعد الاجتماعية المدمرة. وعلى سبيل المثال: تسمح القوانين لمحامي الدفاع تقديم التاريخ الجنسي للضحية كدليل على شخصيتها. وكانت العديد من توصيات لجنة فيرما – والتي تم إدماجها بالقانون – عملت على إدخال تعديلات على قواعد الإثبات، لمنع استجواب الضحايا عن تاريخهم الجنسي السابق للحادث. ولكن العديد من توصيات اللجنة قد تم رفضها وأهمها كان تجريم الاغتصاب الزوجي. اللجنة البرلمانية التي رفضت تطبيق التعديل المقترح قالت بأن تجريم الاغتصاب الزوجي “من شأنه تدمير مؤسسة الزواج” و”إذا تم إخضاع الاغتصاب الزوجي للقانون فكل النظام الأسري سيعيش تحت ضغط كبير”. (وهو أمر حقيقي إذا علمنا أن “النظام الأسري” قائم على إخضاع المرأة). ونتيجة لذلك، فما زال قانونيًا للرجل أن يغتصب زوجته، طالما كان سنها على الأقل 16 عامًا. وهو أمر مخيف علمًا بأن حوالي 47% من الزوجات الهنديات يتزوجن قبل 18 عامًا. مما يعني أن أزواجهن كان بإمكانهم إجبارهن على ممارسة الجنس قبل حتى وصولهن لسن البلوغ. هذا القانون، والدعم السياسي للمحافظة عليه؛ مجرد مثال واحد لتوضيح ثقافة لوم الضحية وتبرئة كل ما عداها، ولماذا تنتشر جذور المشكلة لأبعد من مجرد التشريعات.