كان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الأول بعد الثورة بداية تتناسب مع جوهرها وما يؤمل فيها من مستقبل مشرق لمصر لتعود لسالف عهدها يوم أن كانت أم الدنيا وقبلة العلماء وصانعة الحضارة ومستودع غذاء لكثير من دول العالم ، فتشرق شمس أول يوم دراسي وكأنه يوم عيد ، تعم الجميع بهجته ، وتكسوهم فرحته ، ونرى الهمة في سلوك الجميع ، ونسمع صغار التلاميذ وهم يرددون بصوت عذب نشيد تحية الوطن ( العلم ) فتسيل دموعنا فرحا ، ولكني رأيت عكس ذلك تماما ، إذ عمت الفوضى المدارس ، وخرج التلاميذ والمدرسون إلى مدارسهم متكاسلين تعلوهم الكآبة ، فلا فرح ولا ابتسام ولا ارتقاب لمستقبل مشرق .. فصورة المدارس هي هي التي عهدناها منذ عقود ، في فناء المدارس الابتدائية يقف المدرسون بهيئتهم الشرطية القديمة ، كل واحد يمسك بعصاة طويلة أو خشبة عريضة ويصيح في التلاميذ ليصطفوا في صفوف ، وفي داخل الفصول الدراسية لا تجد إلا ضوضاء تبعث بأصواتها عشرات الأمتار خارج سور المدرسة ، وفي مخزن الكتب لا تجد إلا موظفة واحدة كُلفت غير مأمورة بتوزيع الكتب على من يأتي من التلاميذ أو أولياء أمورهم لاستلامها ، تمشى الهوينى وتتهادى بين الأرفف حتى ينتهي اليوم الدراسي وقد قامت بتوزيع الكتب على أربعين أو خمسين فقط من بين تلاميذ المدرسة الذين ربما فاق عددهم الألف تلميذ ، وعلى مداخل الطرقات قد تجد الأتربة متكدسة بعد أن انصرف بعض العمال عنها لبيع الحلوى والبسكوت وأكياس الشبسي للتلاميذ ، سواء أكان ذلك البيع لحسابهم الخاص أم لحساب المدرسة تحت مسمى الوحدة المنتجة التي ابتدعها الوزراء الغابرون .. أما المدارس الثانوية والإعدادية فقد امتلأت أسوارها المرتفعة بالطلاب المتسلقين عليها ما بين صاعد وهابط ، وفي داخل الفناء يرى الناظر جموع الآخرين من الطلاب وهي تهرول في غير اتجاه لاهية عابثة ، في وقت كان من المفترض أن تكون تلك الجموع جالسة منصة لمعلميها داخل الفصول الدراسية .. وأما المدرسون فيتناثرون بينهم ، يقف كل واحد في جهة ملتفا حوله مريدوه من الطلاب يتضاحكون تارة وتارة أخرى يتكلمون في مواعيد الدروس الخصوصية التي يتعاطونها .. وأما من ليسوا من هؤلاء ( أي من أصحاب الدروس الخصوصية ) فقد انطووا على أنفسهم كل واحد يمسك بدفتر تحضيره لا يلوي على شيء ولسان حاله يلعن اليوم الذي التحق فيه بمهنة التعليم ، حيث لا يجد حتى مجرد غرفة صغيرة يستريح فيها خلال الساعات الفارغة في جدوله بعد أن أدّى تكدس الطلاب غير الطبيعي إلى شغل كل غرف المدرسة ، كما حكى لي أحدهم .. هذا وصف مصغر لما رأيته أثناء تجولي مع بدء العام الدراسي ، وأحسب أن كل المتابعين للشأن التعليمي في مصر قد رأوا ما رأيت ، ورغم ذلك يزعم كثير من المسئولين وعلى رأسهم وزير التربية والتعليم أن العام الدراسي بدأ بهدوء وانتظام و .... و.... و... وأن نسبة الإضراب الذي دعا له المدرسون المضربون لم تتجاوز 6، % ، وكأن مشكلة الإضراب مع إنها مشكلة ثانوية هي المشكلة الوحيدة التي كانت تواجه المسئولين عند بدء العام الدراسي ، مع إن ثمة العشرات من المشاكل المزمنة والمتراكمة عبر السنين ، وكل مشكلة منها كفيلة بأن تُبقي مصر في ذيل الأمم إن لم توجد لها الحلول الجذرية من الآن ، وسأتناول معك أيها القارئ الكريم مشكلتين فقط الآن حتى لا يستع المقال على أمل أن أناقش الباقيات في مقالات أخرى .. المشكلة الأولى : مشكلة الدروس الخصوصية التي تلتهم نصف أو ثلث أو ربع دخل المصريين ، كل حسب مرتبه ، ولم يقتصر ضررها عند هذا الحد المخيف ، وإنما تسببت في تدهور القيم والمبادئ المثلى في مجتمعاتنا ؛ لأن مدرس الدروس الخصوصية لا تعنيه العملية التربوية في شيء ، ولا يفكر في تقويم سلوك الطالب أو الطالبة إن رأى منهما اعوجاجا ، وإنما يعنيه فقط هو تدريب الطالب أو الطالبة على كيفية الحصول على الدرجات العليا ؛ مما أدى إلى ارتفاع مجاميع الطلاب ارتفاعا لا مثيل له في دول العالم ، مع تدن في مستوى الطلاب العلمي ؛ لدرجة أن الكثيرين من الطلاب الحاصلين على مجموع 98% فأكثر في الثانوية العامة قد لا يستطيعون التفرقة في الكتابة الإملائية بين الفتحة والألف ، فيكتبون عليَّ هكذا ( عليا ) ولا بين الكسرة والياء ، فيكتبون لكِ هكذا ( لكي ) ولا بين الضمة والواو فيكتبون يسمعُ هكذا (يسمعو) ... كما أنها قضت على رسالة المدرسة لا أقول التربوية والسلوكية فقط بل والمعرفية أيضا ؛ لأن المدرس الذي أدمن الدروس الخصوصية حريص على غرس كراهية الذهاب للمدرسة في قلوب من يدرس لهم ، ويهوّن لهم من شأنها ، وربما أعطاهم مواعيد دروسه أثناء الدوام المدرسي ليجبرهم على التغيب والحضور إليه ، كما أن بدء الدروس الخصوصية قبل العام الدراسي بشهر أو شهرين تقريبا يجعل الطالب يشعر بالسأم من تكرار الدروس على ذهنه ، وهو يرى أن ما يفعله مدرس المدرسة ليس إلا تحصيل حاصل ، وأنه ليس في حاجة لما يقول ، فالدرس الذي سيلقيه على ذهنه قد أتقن هو حفظه وتمرن على أسئلته قبل أن يحضر للمدرسة ، فليس ثمة جديد .. والمشكلة الثانية هي مشكلة الملخصات أو الكتب الخارجية كما تسمى على ألسنة الناس ، وهي آفة كبرى لا تقل سوءا عن آفة الدروس الخصوصية بسبب ما تلتهمه من دخول الأسرة المصرية ، ففي خبر قرأته منذ قليل في بوابة الأهرام أن المكتبات العامة والمنطقة التجارية قد شهدتا زحاما شديدا من أولياء الأمور والطلاب علي شراء الكتب الخارجية ، وذلك مع بدء العام الدراسي الجديد أمس الأول....وأكد أصحاب المكتبات أن جميع الأسعار ارتفعت عن العام الماضي .... وأن هناك زيادة تصل ما بين10 إلى20% في أسعار الكتب ، ومعظمها لطلاب الثانوية العامة في مواد الرياضيات واللغتين العربية والفرنسية .. وما لا يعلمه كثير من الناس أن مشكلة تلك الكتب لا تقتصر على ما تستنزفه من أموال الناس فقط ، وإنما تسببت في تنحية الكتاب المدرسي الأصلي ، وعدم الاعتماد عليه في المذاكرة ولا حتى مجرد الاستعانة به ، فرغم أن طبعه يكلف الدولة المليارات سنويا إلا أن الطالب أو الطالبة لا يكادان يفتحانه أو ينظران فيه ، وإنما تكون مذاكرتهما من خلال الكتاب الخارجي أو المذكرات التي يعدها مدرس الدروس الخصوصية ، وأن مصير آلاف الكتب التي تطبع وتوزع على الطلاب هو البقالات والمحلات والأرصفة لتباع كورق يستعمل في القراطيس ، وبعضها يخرج إلى تجار الخردة مباشرة ليعاد بيعه لمصانع الورق مرة أخرى .. وكم جلست مع نفسي وأنا أتساءل : إذا كان الكتاب المدرسي بمحتواه لا يتناسب مع الطالب وعقيلته فلماذا لا يقوم المؤلفون بتطويره ومعالجته بحيث يلبي حاجته ، ويزود بنماذج الأسئلة والتمرينات التي تكفيه مئونة التطلع لغيره من الكتب الخارجية ، فتوفر الدولة بذلك على أولياء الأمور الأموال التي ينفقونها في اشتراء الكتاب الخارجي ؟!!! كما أن إعادة النظر في طريقة عرض الكتاب المدرسي بما يتوافق مع عقلية الطالب واحتياجاته سيخفف لا محالة من مشكلة الدروس الخصوصية ، وبذلك نعالج المشكلتين معا .. وهذا السؤال الذي وجهته لنفسي من قبل أوجه الآن للمسئولين الغيورين على مستقبل التعليم بمصر .. وأما القريبون من وزير التربية والعليم فإني أهمس في آذانهم قائلا: بلّغوا السيد الوزير بأن فترة وزارته الثانية لا تختلف عن فترة وزارته الأولى ، وإذا كان قد نُحي في حكومة مبارك التي جاءت الثورة لاقتلاعها لأن سياستها لم ترض شبابها فأولى به أن يغير من سياسته بعد الثورة ، وأن يقدم حلولا ناجحة لهاتين المشكلتين وغيرهما من المشاكل التي تعوق تطوير التعليم بمصر أو أن يعلن استقالته ويترك الأمر لغيره كما فعل وزير التعليم العالي من قبل .. *مدير موقع التاريخ الالكتروني