لا طالما فكرت في قول المولى عز و جل في سورة طه "فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ" و أيضاً في قوله في سورة القصص :"وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (*) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ". فكرت كثيراً في السبب وراء مشاركة الجنود فرعونهم في مصيره ؟!! لماذا أغرقهم الله معه و لماذا يقدمهم يوم القيام إلى النار ؟!! ألم يكونوا مضطرين للإذعان لأوامر الفرعون و إلا كان مصيرهم التعذيب و القتل ؟! و ربما كان وراءهم ذرية ضعاف يخافون عليهم و هم يرون كيف يفعل فرعون بأبناء بني إسرائيل بأيديهم ، هذه وظيفتهم التي لم يعلموا لأنفسهم وظيفة غيرها وهذا ما تقتضيه تلك الوظيفة ، الطاعة العمياء و إلا فالقتل والتنكيل. لو أطلقنا لقلوبنا العنان لربما تعاطفنا مع هؤلاء الجنود و لرأى البعض أنهم ربما آمنوا لو أن الله منحهم فرصة أخرى ، لكن الله عدل و ما كان ليقضي أمراً و لا يكتب عذاباً على أحد دون أن يستحقه و يكون أهلاً له.و من ثم فقد شاء الله أن يدحض هذه الأوهام و ينسف هذا التعاطف ويبدد الدهشة من عاقبة أولئك الجنود ، بأن ساق لنا و في نفس السورة قصة آخرين ثبتوا في وجه الطاغية حين رأوا الآيات بل وتحدوا عقابه وعذابه ولم يلقوا بالاً لتهديده و وعيده ليقولوا مقولتهم الخالدة بعد أن آمنوا برب موسي : "فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" تلك المقولة التي يقشعر لها أبدان الطغاة وتطمئن بها قلوب الخائفين المتوجسين من الظلمة، أولئك هم سحرة فرعون. و شتان بين موقف أولئك وهؤلاء ، شتان بين الخنوع للظالم و العمل علي تحقيق رغباته و تثبيت حكمه و ترسيخ طغيانه ، و بين الوقوف في وجهه و تحديه و من ثم كان البون شاسعاً بين عاقبة كل فريق، فريق أتٌبع سيده فأغرق مثله بل ويقدمهم سيدهم يوم القيامة إلي مثواهم الأخير في النار :"وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُود " و فريق آمن بالله و تحدي الظلم والكفر والطغيان فكتب الله له النجاة في الآخرة و إن لاقى ما لاقى من العذاب في لدنيا. هذه سنة كونية أراد الله أن يبينها لنا في العديد من المواقف. باختصار، لن يستوي من آمن بالله وتحدي بطش الباطشين ومن آثر السلامة وخاض مع الخائضين فضلاً عن أن يكون سيفاً مسلطاً علي من سلك طريق الحق فيبطش به ويذيقه من ألوان العذاب ليرده عن السبيل الذي اختاره. و لم يدع القرآن موضعاً إلا و أكد فيه أن أولئك الذين ظنوا أنهم مستضعفين لابد و أن يلحقوا بساداتهم و كبرائهم في العذاب بل والأمّر و الأدهى أن هؤلاء السادة سوف يتبرؤون منهم و من طاعتهم إياهم. و مما لا شك فيه عندي أن علاقة فرعون و جنوده ليس علاقة طاعة عمياء فحسب بل لعلها أيضاً علاقة مصلحة متبادلة ، فهم يذبحون و يقتلون له أبناء بني اسرائيل و ينكلون بكل من يقف لظلمه و في المقابل يطلق أيديهم في البلاد ليبسطوا نفوذهم على الخلائق كيفما شاءوا ، تلك العلاقة التي جعلت من هلاكهم معه أمراً حتمياً حتي تتطهر البلاد تماماً من ذلك الفساد السرطاني فيتبدل حالها من حال إلى حال.و لو علم الله بهم خيراً لأنجاهم وأغرقه وحده، ولكنني أرى في ذلك عبرة من الله يسوقها إلينا مفادها أنه لن يقام العدل بأن تتخلص من فرعون وحده و لا من أعوانه المقربين لأن جنودهم هم الذراع التي يبطش بها و التي لولاها لما استطاع أن يعضد ملكه و يبسط نفوذه. و لعل هؤلاء الجنود و ما دأبوا عليه من النفوذ و السلطة والتحكم في أقدار الخلائق، لعل ذلك يجعلهم يبحثون عن فرعون جديد إذا هلك هو ونجوا هم، فرعون جديد يسيرون معه على نفس الدرب ويضمن لهم بقاء النفوذ والهيمنة بل لعلهم أيضاً يسعون لصناعته إن لم يجدوه. دار كل ذلك بخلدي و أنا أتابع مدى السعادة و الفرحة التي عمت الأرجاء برؤية مبارك في القفص هو والعادلي وأعوانهما ( و لقد كنت أحد هؤلاء الفرحين قطعاً ) ثم اللهث خلف متابعة القضية التي بلا شك قضية تاريخية لاسيما أنها الأولى من نوعها في العالم العربي ( فأول مرة يقف -أقصد يستلقي- رأس دولة عربية خلف القضبان ) و لكني في ذات الوقت أتعجب من إغفالنا لجنوده الذين ربما يمارس جميعهم مهام عملهم كما كانوا، والذين لولا وقوفهم خلفه وحمايتهم له لما بقي ثلاثين عاماً في كرسي الحكم يبطش بمعارضيه ويفتك بكل من يصدع بالحق في وجهه. أتساءل كثيراً: أين أولئك الذين أذلوا الشعب لعقود و أعملوا فيه التعذيب بأيديهم تارة و بأدواتهم تارة أخرى؟ أين أصحاب مقاطع الفيديو التي ملأت الفضاء الألكتروني بغزارة في السنوات الأخيرة لضباط يهينون مواطنين و يتعدون عليهم بالضرب المهين وبأقذع السباب؟ أين ذلك الضابط الذي كال الركلات لفتاة الجامعة إذ رفضت أن يفتشها و قد ظل يركلها حتي غابت عن الوعي ؟!! أين ضباط أمن الدولة الذين ملؤوا البلاد تعذيباً و تنكيلاً، و كيف خفت ذكر جرائمهم بغتة؟! ألم يكن كل هؤلاء عماد هذا الحكم الغاشم الذي جثم علي صدورنا لثلاثة عقود؟؟ أليس عندهم من الجرائم ما يكفي لمحاكمتهم مرات و مرات ؟!! و هل كان لمبارك أن يبقى جاثماً طيلة هذه السنوات لولا تلك الأيدي التي بطشت بالناس لتكمم أفواههم ؟!! والسؤال الأهم ، و هل يمكن لأمثال هؤلاء ممن نشؤوا في كنف القهر و الاستبداد طليقي اليد في مصائر الناس ، هل يمكن لهم أن يتأقلموا مع دولة القانون و العدل؟ هل ينصاعوا لما يمكن أن يخلع عنهم نفوذهم وسطوتهم فلا يستطيعون بعد يومهم هذا أن ينكلوا أو يبطشوا بمن شاءوا كما اعتادوا من قبل؟!! أليس في عدم تقديمهم للقضاء ما يدفعهم للمضي فيما ألفوه من تنكيل و تعذيب ، فهم لم يروا ما يردعهم !! و كما أسلفت فإن تلك النفوس تواقة للفرعون الذي يعيد لها هيبتها و ترسخ له ملكه فإن لم تجده فسوف تصنعه،و من ثم فإنهم غير مؤهلين نفسياً للعيش في مناخ العدل و الديمقراطية الذي ينزع عنهم رداء الكبر و التسلط. لا شك أن محاكمة مبارك و العادلي و قتلة الثوار أمر حتمي لا رجوع عنه و الأهم من ذلك أن نراهم و قد حكم عليهم ، أما الأكثر أهمية في نظري إن أردنا الإصلاح الحقيقي هو أن نسعى لتطهير السلطة التنفيذية من هذه النماذج التي ترعرعت في كنف القمع والإذلال فلم يروا غيرهما سبيلا، و الكثير منهم معروف لدي ضحاياهم و لكن الأمر يحتاج أن يؤخذ بشكل جدي لا رجعة فيه، فمن شب علي شيء شاب عليه ، و لنا في إغراق الله لجنود فرعون عبرة.