طالعتنا الأخبار يوم الجمعة 3 فبراير بنبأ غرق العبارة السلام 98 وعلى متنها زهاء 1415 راكب بما فيهم أفراد الطاقم، ثم توالت الأنباء لتؤكد موت أكثر من ألف من ركابها وما تلا ذلك من مهزلة إنسانية من ثورة أهل المفقودين وتعديهم على ميناء سفاجا وعلى مقر الشركة المالكة للعبارة المنكوبة وكان جزاءهم ما نالوه من الضرب بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع. ثم ما تلا كل ذلك من فضيحة مصر على شاشات القنوات الفضائية ودوائر صناعة النقل البحري عالميا. وأبدأ بتقديم العزاء لأهل الغرقى وأن لا يؤاخذونا بما فعل السفهاء منا وندعو الله أن يربط على قلوبهم ولا أقول لهم إلا أننا نحسب أن الله اختار ذويهم ليكونوا شهداء وأنهم ما ماتوا إلا لآجالهم ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، وإنا لله وإنا إليه راجعون. أما عن أسباب وقوع الكارثة فمن المعلوم لأهل البحر أن السفينة (أي سفينة)، إذا ما شب بداخلها حريق وتم استخدام مياه البحر بكثرة لإطفائها فإن مياه البحر إن تجمعت داخل بدن السفينة حتما ستؤدي إلى زيادة حمولتها، واحتمال فقدانها اتزانها إذا ما كانت كمية المياه المتجمعة كبيرة، وميلها لأحد الجانبين وغرقها إن لم يتم السيطرة عليها سريعا وبخاصة هذا النوع من السفن الخفيفة الوزن الكبيرة الحجم ذات العنابر المفتوحة والشحنات الحساسة من السيارات والركاب وأمتعتهم. لذا فلا تعليق على السبب المباشر والرئيسي لغرق الباخرة وهلاك ألف من ركابها. ولكن دعونا نرجع للوراء قليلا لننظر في الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه الكارثة. لا شك أن مصر لها الباع الأطول في مجال النقل البحري في المنطقة، وأن مصر نقلت علم الملاحة والهندسة البحرية إلى المئات، بل الآلاف من أبناء الدول العربية على مدى مايقرب من خمسين عاما وحتى يومنا هذا، ومنهم كاتب هذه السطور، ونحن ندين بالفضل لمن علمونا وأحسنوا تأديبنا من العلماء، أساتذة وضباط الكلية البحرية والأكاديمية العربية للنقل البحري. ولو تعددت لدي الأسباب، إلا أنه يقدمها في المقام الأول فساد الذمم وغلبة المحسوبية والوساطة يدعمهما جهل بعض القائمين على الأمر. إن الإهمال والفساد الذي استشرى في الجسد المصري في كل المجالات لا يخفى على عاقل. فالرشوة تفتح الأبواب المغلقة وتبني العمارات المرتفعة ولو من تراب، وتسير السفن حتى ولو لم تكن صالحة للإبحار. وفي صناعة النقل البحري تصل الرشاوى إلى الآلاف من الجنيهات والدولارات، ولا تقتصر على المال بل تتخطاه للهدايا العينية الباهظة، ولا مانع من التعيينات لمن لا يصلح من الأبناء والأقارب إما على سبيل الرشوة أو على سبيل المحسوبية والوساطة والقرابة. فكيف مع استشراء الرشوة يمكننا أن نضمن صلاحية سفينة للإبحار. وكيف مع استشراء الوساطة والمحسوبية لنا أن نضمن كفاءة من يقود باخرة أو من يقوم بالتفتيش على سلامة الباخرة ومنحها شهادات الصلاحية أو من يمنح تصريحا للباخرة بالإبحار، إلى نهاية هذه السلسلة من المواقع المسئولة والتي قد يؤدي التقصير قي أي منها لمثل هذه الكارثة. ولو أني لا أشير بأصبع الاتهام لأشخاص بعينهم إلا أنه لا يمكننا أن نغفل مواقع المسئولين عن النقل البحري في مصر ومنهم من ليس بمنأى عن الفساد ومنهم من يتمتع بجهل مختلط باستبداد لا محصلة له إلا الكوارث. فالمناصب تمنح للأقارب والذرية، ومسئولية الموانئ في التفتيش على السفن منحت أكثرها لمن لم تسنح لهم فرصة العمل على سفينة تجارية في يوم من الأيام، وإلا فكيف بالله عليكم في الوقت الذي يتجه العالم للحد من أعمار السفن، تحمل باخرة عمرها 35 سنة الركاب بين الموانئ بصفة يومية ويصرح المسئولون أن لديها شهادات صلاحية ولا يعيبها شيء. كما أن قطاع النقل البحري ولأسباب تبدو (أمنية)، لا يسمح إلا لجهات معينة بتكنولوجيا الاتصالات والمراقبة والتي أصبحت متاحة لموانئ الدنيا القاصي منها والداني إلا الموانئ المصرية. وإلا كيف لميناء سفاجا أن لا يتابع حركة السفن على بعد 60 ميلا في البحر الأحمر وهي تحمل آلاف الركاب في حين أنه يمكنك أن تتابع حركة السفن في شمال أوروبا، الكبير منها والصغير، وأنت في مكتبك على بعد آلاف الأميال. لقد أصابتنا المحسوبية والفساد والجهل بالعجز والتخلف والموت غرقا. إن مصيبتنا في أنفسنا ومن داخلنا. لابد لنا أن نرجع إلى أنفسنا وأن نراجع أسلوب حياتنا، فإن قبول الرشوة والمحسوبية لا يفرز إلا عمارة تنهارعلى رأس سكانها وهم نائمون، وقطارا متحركا يحترق بركابه، وطبيبا يقتل مرضاه جهلا، وسفينة يتركها ربانها تغرق بمن عليها، وأخرى تمر بجانبها لا يعبأ ربانها ولو بالتوقف لاستطلاع الأمر إما خوفا من مالك السفينة أو جهلا بما يجب أن يفعل. إن حل المشكلة ليس في برنامج تليفزيوني تافه مثير للجدل، ولا بأن يذهب مسئول إلى المستشفى ليزور الجرحى من ضحايا هذه الكارثة أو تلك، ولا بأن يضرب من يعترض بالقنابل المسيلة للدموع، وإنما حل المشكلة يقبع في دور التعليم، وعلى منابر المساجد وفي البيوت حتى نربي جيلا مثقفا حقا، يتقن عمله ويعلم ما يفعل، ويتقي الله، ويحب وطنه، ويؤثر المصلحة العامة على المصلحة الشخصية ولو على نفسه، ويقدم من هو أصلح ليقود المسيرة حتى ينجو وننجو جميعا، وإن لم نفعل فعلينا أن ننتظر الأسوأ والكارثة تلو الكارثة ومادامت قد هانت علينا أنفسنا فلا نستغرب هواننا على الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون. ربان كارم حماد هيئة الموانئ البتروليه الإمارات العربية المتحدة