الحديث عن أزمة الهوية ليس حديثاً عن الوهم أو محاولة لنسج معركة وهمية للاختباء خلفها هروباً من مواجهة أزمات المجتمع الحقيقية بل هو حديث عن أحد أهم الأزمات الكامنة فى بنية المجتمع المصرى والتى تعتبر كثير من الأزمات والعقبات الأخرى انعكاساَ لها . ويجب أن نعترف أن التيار الإسلامى بجميع مكوناته أخطأ خطأ جسيماً عقب ثورة يناير 2011 عندما اختزل أزمة الهوية فى المادة الثانية من الدستور أو المادة 219 الشارحة لها فى دستور 2012 ، واعتبر أن نجاحه فى إقرار هاتين المادتين انقاذاً لهوية المجتمع من الضياع ومن ثم فقد أدى ما عليه وباتت هوية المجتمع فى أمان لا يخشى عليها . والحقيقية أن الهوية ليست مجرد مواد فى دستور يَسْهُل إلغاؤه أو تعديله بإرادة سلطوية مختفية وراء إجراءات شعبية زائفة ، فالهوية الحقيقية عبارة عن مجموع التراكمات التاريخية والثقافية والدينية والاجتماعية التى تعبر عن الذات الحقيقية لأى مجتمع من المجتمعات ، والتى تتميز بالثبات والديمومة ، ومتى استطاع المجتمع إدراك هذه الهوية والتوافق معها فإنه يصل إلى درجة عالية من الانسجام تمكنه من الانطلاق لتحقيق رؤيته الاستراتيجية والتمكين لأهدافه العليا التى من المفترض أن تكون متسقة مع هويته ومعبرة عنها . والمجتمع المصرى منذ اصطدامه بالحضارة الغربية عقب الاحتلالين الفرنسى والبريطانى وحتى الآن وهو يعيش أزمة هوية طاحنة أحالته إلى مجتمع " ممزق " يعانى انفصاماً كبيراً بين ذاته وبين التوجهات الرسمية التى كانت تتعمد قطع الأواصر التى تربطه بجميع مكونات هويته حتى تركته معلقاً فى الهواء . فلم تعمل مناهج التعليم على تأكيد هذه الهوية الحقيقية بل على العكس عمدت إلى إضعافها فى نفوس الأجيال الناشئة فتراجع تعلم اللغة العربية لصالح اللغات الأجنبية وبات التعليم الأجنبى الموازى هو البوابة الحقيقية لسوق العمل ، وباتت اللغة عبئاً ثقيلاً على المتعلمين بسبب العقم الذى أصاب كل ما يتعلق بها من إعداد المعلمين وتهيئة المناهج المناسبة مما سبب وحشة كبيرة مع مصادر الثقافة العربية الأصيلة مما ترتب عليه الشعور بالانبهار تجاه الثقافات الوافدة التى وجدت عقولاً فارغة من أى محتوى ثقافى حقيقى . وما حدث فى اللغة حدث فى التاريخ إذ من المعروف أن تاريخ مصر على أكثر من الف وأربعمائة عام إنما كتب فى محيطها الإسلامى الواسع الذى كانت جزءاً لا يتجزأ منه ولم تكن الأحداث التى يشعر فيها المصرى اليوم بالفخر والزهو صناعة مصرية خالصة بل كانت عملاً مشتركاً مع مكونات الأمة الإسلامية كلها من كرد وأتراك وعرب وشراكسة وافارقة ... إلخ . وبالتالى فإن محاولة البحث عن تاريخ مواز لمصر بعيداً عن عمقها الإسلامى يعتبر ضرباً من المستحيل ولكن الذى حدث أن التوجهات الرسمية " العلمانية " أهملت هذا التاريخ الطويل والحافل لصالح حقبة زمنية محدودة لمحاولة قطع أواصر الصلة بين المصريين وبين انتمائهم الإسلامى الواسع مما أفرز أجيالاً تائهة فى ضروب الزمان تشعر بالضياع لعدم إحساسها بقيمتها التاريخية ولا الحضارية ولم تعد تعرف شيئاً ذا قيمة مما قدمته أمتها للإنسانية جمعاء فى جميع ضروب العلم والمعرفة فباتت تنشد الإحساس بالفخر والزهو فى انتصار فريقها الوطنى فى مباراة لكرة القدم أو تهرول وراء الفائز فى " عرب إيدول " لرفعه فوق الأكتاف والاحتفاء به أياما متتالية إذ نشأت هذه الأجيال فى فراغ ولم تعرف قيمة الغزالى ولا ابن رشد ولا ابن سينا ولا الخوارزمى .. ولا غيرهم ممن أسهم فى إفادة البشرية كلها . ما حدث فى التعليم والتاريخ حدث مثيله فى الثقافة التى تم تسليمها إلى اليسار المتطرف الذى لم يكتف بعجزه عن تقديم منتج ثقافى جيد يليق بدولة بحجم مصر ولكنه عمد إلى العبث الشديد بالمكون الثقافى فلم تكن سياسته ولا خطته الثقافية منسجمة مع هوية المجتمع بل جاءت متصادمة معها بشدة إذ عمد هؤلاء إلى قطع الصلة بين ثقافتنا المعاصرة وبين انتمائنا الإسلامى سواء كان إنتاجاً أم تكريماً ورأينا جميعاً كيف كانت هذه المؤسسات الثقافية " الرسمية " تعمد إلى تكريم المتطاولين على ثوابت الإسلام ورموزه . كان لابد للمجتمع المصرى أن يتمزق خاصة مع توالى الهجوم الإعلامى المنظم والمرتب على ثوابته العقدية ورموزه الإنسانية التى لم يسلم منها أحد حتى طال الاستهزاء والتطاول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه وآل بيته وعلماء الأمة وقادة التاريخ الإسلامى الذى كان يفتخر بهم ويجلهم . ومع هذا التمزق الحاد الذى عانى منه المجتمع المصرى كان انجرافه الهائل نحو الانكفاء على الذات والانزواء بعيداً عن حركة الحياة خاصة مع غياب المشروع الوطنى الجامع المنسجم مع هويته . هذه الأزمة الحادة تحتاج إلى جهد طويل وعمل دؤوب من أجل تفكيكها وإعادة المجتمع المصرى إلى دائرة هويته الحقيقية ، ولكن فى ظل غياب الحريات وتغول الدولة البوليسية فإن شيئاً مما سبق لن يتحقق مما يعنى تعمق الأزمة يوما بعد الآخر التى لم تكن يوما ما أزمة المادة الثانية ولا المادة 219 من الدستور .