فى زمن شحت فيه القدوة، وتجرأ الصغير على الكبير، ونُزعت الرحمة إلا من رحم ربى، وسيطرت المادية المتوحشة على الجميع، كان لزاماً علينا أن نهرع إلى رجال من الزمن الجميل، نأخذ منهم القدوة والمثل، ونحن اليوم نعيش موسم الامتحانات، حيث يسيطر التوتر على الجميع، وتعلن حالة الطوارئ فى كل البيوت، ويقع الجميع فى )حيص بيص(، ويهرب التركيز من الطلاب، ذهبنا للبحث عن دواء لهذا التوتر فى صيدلية العالم الربانى الجليل منصور الرفاعى عبيد، وكيل وزارة الأوقاف الأسبق، حيث أدلى بتجربته فى زمن اتسم بالجد والالتزام، سرنا معه فى بستان ذكرياته فكان حديث من القلب لابد لقارئه أن يستفيد منه على نحو أوسع...
فى البداية سألنا الشيخ منصور الرفاعى عبيد عن ذكرياته مع موسم الامتحانات فى كل المراحل التعليمية، وأهم المواقف التى تعرض لها خلال هذه الرحلة فقال: "من المعلوم أن أيام الشباب ولو عرف الشباب ما لهم من خير فى هذه الأيام لتفرغوا للقراءة والعمل الجاد والابتكار والتأليف، وأذكر أننا فى مرحلة الطفولة المتأخرة والشباب، كنا نستذكر الدروس، ولابد لنا من كتاب أدبى وكتاب دينى نقرأهما فى أيام المذاكرة، وكنا فى آخر العام فى أيام الامتحانات نسهر حتى الساعة العاشرة مساءً وننام مبكراً، ونستيقظ فى صلاة الفجر وأحلى المذاكرة لترسيخ العلوم بعد صلاة الفجر حتى السابعة صباحاً ، وكانت الساعة فى هذا الوقت بمقام عشرة ساعات فى النهار ، وكنا فى أيام الامتحانات ننام بعد صلاة العشاء مباشرة ونستيقظ قبل الفجر بساعة ، كنا نقرأ قرآنا فى نصف ساعة، ثم نستعد لصلاة الفجر، وبعد الصلاة نذاكر لمدة ساعة ونصف فى المادة التى سنمتحن فيها، وكنا نذهب إلى الامتحان وندخل إلى اللجنة وكأن الكتاب كتاب مفتوح أمام أعيننا ، نكتب الإجابة وكأننا ننقلها تماما من الكتب ، ونذهب إلى أهالينا فرحين مستبشرين ، فتقول الأم: "هذه بركة اليقظة قبل الفجر"، وكنا دائماً نقول لإخواننا: "افعلوا مثلنا"، فأصبحوا يقلدوننا وصار هذا العمل فى الثانوى والتعليم العالى.
وفى أحد أيام الجامعة استدعاني المرحوم الدكتور عبدالحليم محمود سنة 1957، وكان يعمل مدرساً للفلسفة الإسلامية، وقال: "يا فلان.. يا فلان ونادانا بأسمائنا، وقال لنا: "هل تذاكرون معاً" ، فقلنا له: لا، فقال لنا: إن إجاباتكم متطابقة ، فقلنا له: نحن نحرص على صلاة الفجر فى مسجد الخازندارة ويجلس كل واحد منا بجوار عامود ، ونذاكر حتى مطلع الشمس ، ونصلى الضحى وننصرف، فقال الرجل على الفور: الله أكبر هذه بركات صلاة لا يحضرها المنافقون، فتثبتوا بذلك يا أولادي، فأنى أرى فيكم رجال المساجد".
ويواصل الشيخ منصور سرد ذكرياته فقال: "وقد صدقت نبوءة الشيخ، فأصبحنا نحن السبعة من العاملين فى وزارة الأوقاف ومنهم الشيخ عبدالله خيال، والشيخ كمال عبدالمقصود، وحلمى الجمل، وكنا بالوزارة يوم أن حضر الدكتور عبدالحليم وزيراً للأوقاف ، فجمعنا وأعطى لكل فرد مكتبة عامة ومصحف كتب عليه إهداء بخط يده قال فيه: "إلى من تنبأت لهم بأن يكون من علماء الأوقاف، فها هم اليوم بين يدي فشكراً لله على هذا ... إلى منصور عبيد "، وكتب اسم كل واحد على المصحف الذى أخذه".
"فى أخر أيام الامتحانات كانت هناك مادة تسمى "التعيين"، وهذه المادة من أصعب المواد فقلنا: ماذا نصنع نحن السبعة؟ واتفقنا على أن ننام فى مسجد الخازندارة، وطلبنا من إمام المسجد ويدعى السيخ أحمد الدومى، وطلبنا منه أن ننام فى المسجد، فقال: على الرحب والسعة وعشاؤكم عندى وفعلاً أتى لنا بنصف فرخة لكل شخص، وقال لعامل المسجد: اصنع لهم شاياً كما يحبون، وكان من بيننا الشيخ على شحاتة وكان أبوه عمدة "شبرا البلد"، وذهب واحضر (شنطة) مليئة بالتفاح، والبرتقال، والعنب وقلنا لأنفسنا: (هانكل ولا هنذاكر؟) ، فأكلنا الفاكهة وتركنا الفراخ حتى الصباح فتناولناها كطعام للإفطار. وحضر الشيخ الدومى وضرب كفاً بكف وقال: "يا ويحكم أتأكلون هذا الطعام فى الصباح ؟". فقلنا له: "نحن لم ننم حتى نفرق بين الليل والنهار". وذهبت إلى اللجنة، وكان نصيبى أن حضر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، وشاء قدرى أن وجه إلىّ سؤالاً فى مادة التعيين وهى (وعلى الله قصد السبيل ومنها زائر)، وعندما تكلمت باستفاضة، وأنا أرفع رأسى إلى سقف الغرفة، وكأنني أقرأ من كتاب ، عندئذ سألني الشيخ شلتوت: من أى البلاد أنت ؟ فقلت له اسم بلدتى. فسألنى: هل تعرف الشيخ محمود أبو عميرة (وكان مدرساً فى معهد طنطا للقراءات). فقلت له: نعم. فقال له: "عندما تذهب إلى بلدتك قبّل يديه وأساله الدعاء وأنت موفق"، ثم انصرف الشيخ شلتوت، فقال رئيس لجنة الامتحان الشيخ محمدين وكان من كبار العلماء : قم يا ولدى فإن الإمام الأكبر دعا لك بالتوفيق. والخلاصة أن المواقف متعددة لكن أبرزها المواظبة على صلاة الفجر التى يشرق نورها فى قلب الإنسان .
ثم سألنا الشيخ كيف اجتنبتم المعاصى ولهو الدنيا التى تصيب الشباب وطلاب العلم وخصوصاً وأنهم يكونون فى فترة المراهقة؟
لا شك أننا قرأنا قول الله تعالى : (قل من حرم زينة الله التى أخرجها لعبادي والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، وعندما تأملنا فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (من ترك الحرام مخافة الله أعطاه الله ما تمناه من حلال)، فنحن جعلنا الدنيا فى أيدينا وأذكر أننى فى يوم من الأيام كنت مديراً عاماً للمساجد وعضو مجلس الشعب وكثير السفر إلى البلاد الخارجية ولى علاقات متعددة هنا وهناك ومع ذلك لم أتكبر على أحد من الخدم أو السعاة أو أخواني لأن آمنت بأن الكبرياء لله وحده ومن تواضع لله رفعه (أنا أقول هذا ليس افتخاراً ولكنه من باب التوضيح)، فأعطاني الله كل ما كنت أرجوه وزيادة، ومتعنى بصحتى وعافيتى، لأننى أخلصت لله سراً وجهراً فى عملى وقصدت بعملى وجه الله حتى فى العلاقات الاجتماعية ، ولذلك لو جلست اشكر الله واحمده على نعمته السابغة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ، لكن يكفينى أننى برضائي عن ربى واشعر برضا عن نفسى .. واشعر برضائى عن عطاء الله لى، وإلى كل من يرقى فى سلم المجد لا تنافق ولكن تواضع فى غير مذلة ، وإذا قصدت أحداً لقضاء مصلحة فاجعل وجهتك لله رب العالمين ، وأسأله أن يفتح لك القلوب ويرزقك حسن التعبير عما تريد ، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب وما الناس إلا أساباً لقضاء مصالحك وقد أمرنا الله بأن نأخذ بالأسباب .
نصائح للممتحنين: وفى النهاية قدم لنا الشيخ نصائح للطلاب والمعلمين تعد خلاصة تجربته فى الحياة فقال:"أتقدم إلى أبنائي الطلبة وأقول لهم اعلموا أن الله تعالى أمرنا ان نسأله (قل رب زدني علماً) ومع المذاكرة والاجتهاد واحترام الأكبر سناً واحترام أستاذتك واجعل صلتك بالله قوية وحسن اعتمادك عليه أقوى، واعلم أن الله يراك فى غير موقع فلا تخضعن لمخلوق لذي طمع ولكن اجعل نفسك كبيرة وكن كما أنت ، تواضع فى غير ذلة وارحم فى غير مسكنة ، وصل أقاربك واخدم بلدك وعش على أرض الواقع ، ولا تهمل فى أى شيء وأحفظ النعمة تدوم عليك، وابتعد عن المعاصى تدوم لك الصحة التى هى تاج على رؤوس الأقوياء ..
وأما أخواني فأقول لهم: اتخذوا من أعمالكم رسالة إلى الله مشحونة بالصدق، مملوءة بالوفاء والحب وبالتقدير لمن أعرف ومن لا أعرف، وامشوا على الأرض بخلق السماء وتطلعوا إلى السماء بحسن السعى على الأرض واجعلوا لكم من القرآن ورداً فى كل يوم ومن سيرة النبى صلى الله عليه وسلم قدراً واسع من الاستيعاب وعيشوا مشاكل أمتكم وضعوا الحلول المتاحة لفكركم وعقلكم، واعلموا أن عقلاً مع عقل أحسن من عقل واحد ، وعقول ثلاثة أفضل من عقل اثنين ويد الله مع الجماعة ..