منذ فجر الإنسانية لم تنقطع العلاقات بين الأمم، إذ أُرسلت الرسل والسفراء لنقل المعلومات، والتعبير عن الاحتياجات، وتسهيل المعاملات بينها.ومع تطور العلاقات الدولية، ظهرت الحاجة الملحة إلى التمثيل الدبلوماسي الدائم،فنُظمَّ ابتداءً بالعرف الدولي، نُظِمَ قانوناً باتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية سنة 1961م. والسفارةُ، يُقصد بها مقر السفير ومعاونيه، وهي قطعة الأرض المُحددة، التي يوجد فوقها بناء السفارة، والذي يُرفع عليه علم دولة السفارة، وتُعد وفقاً لقواعد القانون الدولي جزءً من أرض دولة السفير، ولذلك تتمتع السفارة والسفير وكافة أعضاء البعثة الدبلوماسية بالحصانة الدبلوماسية الكاملة؛ حيث لا يخضعون لقوانين الدولة المضيفة، وإنما يخضعون لقانون بلادهم. ويسعى السفير من خلال السفارة ومن بها معه من أعضاء البعثة إلى تمثيل دولته والتفاوض باسمها مع الدولة المعتمد لديها، وتعزيز شتى أنواع العلاقات بينهما، وحماية مصالح دولته ورعاياها لدى الدولة المعتمد لديها (المادة الثالثة من اتفاقية فيينا لسنة1961).
وبعد هذه المقدمة القانونية اليسيرة، نأتي إلى سؤالنا الأهم ذو الصلة بالحدث الدقيق الآن. ماذا يجري في القاهرة بصدد غلق سفارات بعض الدول الأجنبية كانجلترا وكندا واستراليا، وتحذير البعض الآخر لرعاياها كالولايات المتحدةالأمريكية بتوخي الحذر؟؟ وما أعلنته السفارة الألمانية من تعليق خدماتها بداية من الخميس المقبل!! فما الأمر؟ وما وراءه؟ وقد صار حديث مصر كلها، ليل نهار، في كل وسائل الإعلام، بشتى صورها، وحديث الشارع المصري على لسان المواطن العادي!!! هذا في ظل ما تناقلته بعض وسائل الإعلام من رصد إحدى الدول لاتصالات تفيد وجود مخطط إرهابي كبير لاستهداف بعض السفارات بالقاهرة!!! وفي ظل صمت الدوائر المصرية المعنية عن الحديث عن هذه المخاطر أو حتى تحذير المواطنين المصريين من أي شيء يتعلق بها!!! ما هو التفسير الأقرب للقبول واقعاً ومنطقاً لما يدور بصدد غلق أو تعليق هذه السفارات لأبوابها أو أعمالها وما انعكس عن ذلك في الشأن المصري الملتهب؟؟
ابتداءً، فسر البعض ذلك بحديث مزعوم عن افتعال اضطرابات منهجية، ثم نسبتها إلى التيار الإسلامي المتواجِد أنصاره في الشارع، وذلك تمهيداً لأمرين، أولهما: التغطية على وقائع التسريبات الأخيرة وتوابعها. أما الأمر الثاني، فيتمثل في التوطئة لإعدام القيادات الفاعلة للتيار الإسلامي الموجودة في السجون!!! وهذا التفسير نستبعده كلياً؛ لأن حكومات هذه الدول الأجنبية تحترم رعاياها وشعوبها وترعى مصالحهم بحق، ولا يمكن تصور أن يكون منحاها هذا جزء من اتفاق مع الإدارة المصرية بأي حال ولو كان عَرَضَاً، وقد لا يعدو مجرد احتراز -متزامن مع الحدث المصري-لحماية رعاياها وحماية سفاراتها، في ظل وجود تقارير مخابراتية باعثة على مخاوف مشروعة. أما فيما يتعلق بنظرية المؤامرة والتخلص من القيادات التي في السجون، فإن أحكام الإعدام التي صدرت والتي قد تصدر ستأخذ زمناً كبيراً حتى تتحصن قانوناً، وتصبح أحكاماً باتة يمكن تنفيذها، الأمر الذي قد يستغرق سنوات، ومن ثم لا فلن تكون ذات صلة بما يجري الآن.
وقد فسر البعض المسألة، بأنها محض عمليه ابتزاز للدولة المصرية؛ من أجل زيادة التعزيزات الأمنية حول هذه السفارات، وغلق مزيد من الشوارع في محيطها من أجل ذلك، وهذا ما نفته تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية في تعقيبه على قرار السفارة البريطانية بأنه إجراء أمني احترازي، وأن لكل دولة الحق في اتخاذ الإجراءات الأمنية اللازمة لتأمين مقار بعثاتها والأفراد العاملين بها. كما أعتقد أن الإدارة المصرية الحالية في مصر في ظل الظرف الدقيق الذي تمر به الآن لم تكن لترفض زيادة التعزيزات الأمنية حول السفارات أو غلق شارع محيط بها إن كان قد طُلب منها ذلك؛ من أجل استمرار هذه السفارات مفتوحة، تُمارس مهامهما، لتعطي انطباعاً دولياً عن مصر باستتباب الأمن وشيوع الأمان في ربوعها.
وهناك تفسير ثالث له وجاهته المقبولة، والتي لا تخلو من وجود بعض الأدلة والشواهد الكثيرة المصاحِبة. ويتمثل في أن أن هناك تزامن غير مقصود لذاته بين الحدث الأجنبي بغلق السفارات لمخاوف مشروعة، وبين الحدث المصري الدقيق، والذي قد ينفجر ويزيد اشتعالاً كلما اقتربنا من تاريخ ذكرى ثورة يناير... فأجهزة مخابرات هذه الدول– والتي تنسق فيما بينها دوماً- رصدت اتصالات تفيد وجود مخطط إرهابي لاستهداف بعض السفارات بالقاهرة، فضلاً عما ورد عن مكتب وكالة الأمن الدبلوماسي بالخارجية الأمريكية الجمعة الماضية في بيان رسمي لها من التحذير لرعاياها في ضوء التوتر والهجمات الأخيرة على الغربيين في المنطقة، هذا إضافة إلى ما أُعلن عن عزم الكونجرس الأمريكي إصدار تقريره حول تقنيات الاستجواب القسرية التي استخدمتها وكالة الاستخبارات الأمريكية في التحقيق مع المشتبه بهم بقضايا إرهاب إبان ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، إذ يُتوقع أن يؤدي إصدار مثل هذا التقرير إلى أعمال عنف وقتل، حيث سيكشف أسماء الدول التي ساعدت في احتجاز واستجواب الإرهابيين. وأخيراً، ما أُعلن عن إرسال مجلس الأمن والتعاون الأوروبي رسالة للدول الأعضاء فى الإتحاد الأوروبي يحثها على إجلاء رعاياها من مصر؛ تأسيساً على أن مستوى الأمن منخفض جداً فى القاهرة والمدن الكبرى، حيث حث مواطني الإتحاد الأوروبي بعدم زيارة مصر في الفترة المقبلة.هذا عن بعض شواهد وأسباب التخوفات المشروعة من قبل الدول الأجنبية، والتي دعتها إلى ما ذهبت إليه من إغلاق السفارات أو إطلاق التحذيرات.
أما الحدث المصري فإنه يموج باضطراب كبير، ولا شك أنه يزيد ويتفاقم يوما بعد يوم، على أثر براءة السيد مبارك ورجاله وإفلاتهم حتى اليوم من العقاب، ثم إذاعة هذه التسريبات المشينة لكبار رجالات الدولة إن صحت في مبناها ومضمونها، وما ترتب عليهما من سخط شعبي متنامي، في ظل تقارب يبدو مشهودا، أو مأمولاً بين القوى الثورية المعارضة في الشارع... كل ذلك زاد من حدة توتر وانفعال الإدارة الحالية في ظل أمرين اثنين: أولهما إعلان البعض عن أن ثمة تسريبات جديدة مماثلة في الطريق أخطر وأخطر من سابقتها، والأمر الثاني، يتمثل في الاقتراب من ذكرى ثورة يناير، والتي يُعَوِل كثيرون على تاريخها لحدوث تغيير جذري في المشهد السياسي المصري.
غير أنه، ولأننا في مصر أرض الكنانة، ولأنه لا حقيقةَ مطلقة أو مؤكدة فيها، ولأن كل شيئ فيها - مهما بدا بعيدا أو غير متصور - بات وارداً أو متصوراً، فإن التكهنات أو التخرصات تفتح الباب واسعاً على مصراعيه لتصور حدوث أي شيئ، ولننتظر ما تكشف عنه الأحداث في قابل الأيام.