العقل هو النعمة الإلهية على بنى البشر ، وبفضله أصبح الإنسان سيداً لهذا الكون ، وأصبح العقل هو سبب التكليف أو عدمه ، وسبب التقدم أو التأخر ، وسبب الحب أو الكراهية ، والعقل هو الدليل إلى الإيمان ، وهو القائد إلى أنوار الهداية وتجليات العناية فى رحاب السالكين ، فالذين استدلوا على الله استدلوا عليه بعقولهم ، ثم بعد ذلك أطمأنوا إلى وجوده بقلوبهم ، فالعقل يؤمن ، والقلب يطمئن. وللقرآن الكريم المشاهد العديدة فى هذا السياق ، فالخليل إبراهيم عندما سأل ربه { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} كان السؤال عقلياً ، وكان الشك منهجياً ، فهو لم يسأل للإنكار ، وإنما سأل فقط للإطمئنان { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ….} العقل قبل الإيمان ، ولكن الخليل يبحث عن اطمئنان القلب. وهذا السؤال كان سبباً فى تغيير فهم مقاصد الرسالة عند الخليل عليه السلام ، حيث فهم أهمية العقل فى صناعة الإيمان ، وأن العقل مقدم على القلب ، فأراد اثبات ذلك للمشركين عبر مخاطبة العقل ، فذهب إلى أصنامهم وحطمها ، ثم علق الفأس فى رقبة كبير الأصنام لينظر ماذا سيفعل القوم !!. كل مقصده من رمزية الفأس فى رقبة الإله المزعوم أن يثبت لهم أن هذه الآلهة لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ، ولا تستطيع أن تدفع عن أنفسها ضراً أو تجلب نفعاً... وجاء القوم بغبائهم المعهود !! كان يكفى عند رؤيتهم للفأس معلقة فى رقبة كبير الأصنام ، والأصنام محطمة شر تحطيم ، أن يعودوا إلى صوابهم ، وأن يفكروا ولو للحظة واحدة ، كيف نسجد لأصنام لا تستطيع الدفاع عن نفسها ونحن نطلب العون والمدد منها؟! ولو وقفوا للحظة ، وأعملوا عقولهم لبعض لحظة ، لعادوا إلى رشدهم ، ولأدركوا ضلال اعتقادهم وفساد عقلهم !! ولكنهم لم يفعلوا !! لا زالت الخمر تلعب برؤسهم ، ولا زال الجهل يغذى أبدانهم ، فتساءلوا فى عجب من فعل هذا بآلهتنا ؟! والسؤال فى حد ذاته سؤال عقلى !! منطقى مائة بالمائة!! لأنهم يسألون عن سبب حدوث حادث أو وقوع واقعة !! فهم إذاً أيقنوا بوقوعها !! ولو استمرت عقولهم فى اليقظة بما استيقظت له عند طرح هذا السؤال لعادوا فى توهم إلى رشدهم ، ولكنهم لم يفعلوا { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } هل تلك هى القضية ؟! من الذى فعل ؟! لو أحسنوا السؤال لقالوا كيف تم هذا؟ كانت الإجابة الوحيدة التى ستوقظ ضلال عقولهم ، لو كان هؤلاء آلهة لدافعوا عن أنفسهم ولأنزلوا العقاب مريراً على من يريد السوء بهم !! ولكنهم تغافلوا عن إعمال العقل ، فكانت تلك الغفلة سبباً فى كفرهم، ويأتون بالخليل إبراهيم ، ليسألوا { أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا }... ويأتى الجواب مخاطباً العقل ، حاثاً على إعماله ، ولعلها الفرصة الأخيرة لهؤلاء المضلين { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ }... إن سؤاله العقلى لربه واستدلاله على الإيمان بالعقل بادئ الأمر لا زال يشغل نفسه ويملأ قلبه ، فاستعمل نفس الطريقة وذات المنهج مع مشركى قومه لعلهم يفطنون ، ولكنهم كانوا بالغباء الكافى لرفض عقولهم تلك البينة الواضحة ، ولو استقامت عقولهم لاستقام إيمانهم. ولأنهم رفضوا دلائل العقل للإيمان ، فسوف يعترفون يوم القيامة بفساد تلك العقول ، وضلال ذاك المنطق ، ليقولوا { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . وفى مشهد أخر يدلل القرآن على أن العقل قائد للإيمان ، فى قصة تلك المرأة التى أوتيت من كل شئ ، ولها عرش عظيم ، وكانت سيدة على قومها وملكة عليهم ، كان لها الرأى عليهم ، والأمر والنهى ، ومع ذلك العقل الذى امتلكته لدرجة جعلتها تحكم الرجال ، ولدرجة جعلتهم يقولون لها فى ذلة وصغار { وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } ، إلا أنها كانت تسجد للشمس هى وقومها من دون الله. وبعدما يأذن الله فى هدايتها يرسل إليها الهدهد فى قصة من أروع القصص ليكون سبباً فى هداية تلك الأمة ، وبعد أن تستدل بعقلها أن تلك القوة التى يمتلكها سليمان ليست قوة ملك وإنما قوة نبى ، قادها عقلها إلى الإيمان الفورى ليؤمن قومها ، فاعترفت بضلالها ، وبظلمها لنفسها ، وأذعنت لله رب العالمين { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } إيمان عقل ، ودلائل عقلية بحته ، باشرت شغاف قلبها فاطمأن لها. والنبى الكريم (صلى الله عليه وسلم) يؤكد تلك المعانى السامية لدلائل العقل ، ويفرد للعقل مكانته الكبرى ليفتح المجال للفكر والاجتهاد وحرية الإبداع ، فعندما أرسل معاذ بن جبل (رضي الله عنه) إلى بلاد اليمن سأله (صلى الله عليه وسلم) " بم تحكم يا معاذ ، فقال بكتاب الله ، قال فإن لم تجد ، قال فبسنة رسول الله ، قال فإن لم تجد ، قال أجتهد عقلى ولا ألو ، فضرب النبى (صلى الله عليه وسلم) على صدر معاذ وقال " الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله " ... إن أمتنا العربية والإسلامية اليوم لا تعدم الإمكانيات أبداً ، فقد حباها الله بما لم يُفض بمثله على عباده ، ولكنها فقط تعدم الإخلاص وحسن النوايا ، تعدم صدق العزيمة وإخلاص اليقين ونقاء الفطرة التى خلقنا عليها. إننا بحاجة إلى إعمال عقولنا لتكون دليلاً لنا إلى الإيمان والرشاد والتقوى ، ولتكون أمتنا بحق خير أمة أخرجت للناس ، ولنصنع نهضتنا بحق ، نهضة تقوم على ذلك العقل الذى صنعه الله على عينه ، وذاك العقل الذى فضلنا الله لأجله على كثير ممن خلق تفضيلاً ، فبدون العقل لا نهضة ولا إيمان ، ويا ليت قومى يعلمون .