للأسف الشديد السلطة الموجودة فى مصر حالياً ينحصر اهتمامها بالشأن التركى فى تصريحات الرئيس التركى رجب طيب أردوغان ومهاجمته الدائمة للسيسى كلما سنحت له الفرصة وآخرها كان فى مؤتمر صحفى جمعه بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين قبل عدة أيام . وأظن أنه سيكون من الأجدى نفعاً أن تهتم سلطة الثالث من يوليو بالتعمق أكثر فى التجربة التركية إن كانت جادة حقاً فى حل الإشكاليات الصعبة التى باتت تهدد وجود الدولة المصرية ووحدتها واستقرارها ، وكل يوم يمر يقربها من حافة الانهيار وسط ممارسات سلطوية جامحة تزيد الأمور تعقيداُ ، وغياب رؤية صادقة لحل الأزمة الحالية لتصفير المشاكل كما فعلت الدولة التركية . فالجمهورية التركية الحديثة عقب تأسيسها وجدت نفسها محاطة بمشاكل من العيار الثقيل والتى مثلت تحدياً خطيراً على مدار عقود متتابعة فهناك مشاكل التنوع العرقي ( أتراك – أكراد – عرب –أرمن ) كما أن هناك مشاكل التعدد الدينى رغم أن المسلمين السنة يشكلون الأغلبية الكاسحة إلا أن ذلك لم يمنع من وجود أطياف دينية أخرى ( شيعة – علويين – مسيحيين – يهود ) وقد عمدت النظام العسكرى الذى أسسه كمال أتاتورك على التعامل مع هذه الأزمات من منطلق القوة ومحاولة فرض سياسة الأمر الواقع مما أدى إلى وقوع مذابح مروعة فى حق هذه الأقليات منها على سبيل المثال مذبحة درسيم بحق الطائفة العلوية عام 1937 والتى تم قصفهم فيها بالغازات السامة ثم تم تكريم الطيار الحربى الذى نفذ المذبحة وهو بالمناسبة سيدة ( صبيحة كوكجن ) بإطلاق اسمها على ثانى أكبر مطار باسطنبول فى الجزء الأسيوى . وقد قد أردوغان اعتذارا رسميا قبل عدة سنوات للعلويين على هذه المذبحة رغم أنها بعيدة عنه وعن حزبه . كما أن عدم التوصل لحل مشكلة الأكراد وإنهاء مظلوميتهم أدى إلى تفجر الصراع المسلح قبل حوالى ثلاثين عاما على يد حزب العمال الكردستانى ( PKK ) بزعامة عبد الله أوجلان فى الشرق التركى . هذه التركة الثقيلة ورثها حزب العدالة والتنمية وكانت رؤيته التى بنى عليها تحركاته منذ عام 2002 وحتى الآن أن العنف الذى اتبعته الحكومات العلمانية واليسارية من قبله لم يجلب سوى العنف ولم يسهم فى إنهاء المشاكل بل أدى إلى تفاقمها لذا كانت الرؤية التى رفعها الحزب عندما كان أردوغان زعيما له قبل انتقاله لمقعد الرئاسة ويستكملها الآن رئيس الوزراء الحالى أحمد داود أوغلو هى " تصفير المشاكل " للوصول إلى السلام الدائم الداخلى وتحقيق المصالحة المجتمعية الشاملة فكانت الإصلاحات القانونية المتتابعة التى تبناها الحزب والتى كان يهدف من ورائها إلى تحقيق مبدأ المواطنة لجميع مكونات المجتمع التركى . ثم كانت خطة الحزب التى طرحها فى منتصف عام 2013 لإحلال السلام فى شرق وجنوب شوق تركيا عبر خطة واضحة متدرجة تفضى إلى إلقاء مقاتلى حزب العمال لسلاحهم وإعادة دمجهم فى الحياة السياسية ويمكن تلخيص خريطة الطريق التى تم طرحها فى النقاط التالية : 1 مطالبة عبدالله أوجلان المسجون فى جزيرة إيمرلى أن يوقف المحاكم والعمليات العسكرية التي تظهر بشكل كيان موازي في المنطقة الجنوبيةالشرقية من تركيا، والتي تقوم بتجميع المقاتلين الأكراد من الشباب الصغار طوعاً وكرهاً وخطفاً. 2 عندما يعترف المسؤولون في جبال قنديل ( التى يتجمع بها المقاتلون الأكراد ) بهذه العملية السلمية ويطبقون المادة الأولى، فإن أوجلان سينقل من حجرته في السجن إلى حجرة اوسع، ليعمل مساع لإحلال السلام، وتشكل له سكرتاريا معاونة 3 من مهمات السكرتاريا أن تعلن إلى الأكراد نتائج المباحثات مع الحكومة التركية، فتكون لها صفة التواصل مع الأحزاب والقوى الكردية. 4 تشكيل لجنة حكماء من 12 14 شخصاً، لمواصلة عملية السلام ويسمى أعضاؤها العين الثالثة، يسمح لها ان تقابل أوجلان في سجنه، ويسمح لها مقابلة الصحفيين لاطلاعهم على نتائج المباحثات مع الحكومة التركية. 5 إذا دعم المسؤولون الأكراد في جبال قنديل قرار أوجلان انهاء العمليات العنفية والارهابية من الكيان الموازي الكردي في جنوب وشرق تركيا، فإن الحكومة التركية تقوم بتعديل قوانين مكافحة الارهاب، وتحول الحكومة هذه القوانين إلى المجلس النيابي، وتبدأ المباحثات الرسمية بين المقاتلين وبين الحكومة التركية. 6 بعد المرحلة الخامسة سوف يعلن تنظيم حزب العمال الكردستاني أن مقاتليه يلقون الأسلحة ويغادرون البلاد، ويعلن نهاية العمليات المسلحة نهائيا، وتبدأ بعد ذلك عملية تعديل الدستور التركي الذي وضعه العسكر بعد انقلاب 1980، ولم يكن فيه حقوق كافية لكل القوميات التركية. هذه الخطة من المتوقع اكتمال فصولها منتصف العام المقبل وسط تحركات خارجية حثيثة لتفخيخ المصالحة والقضاء عليها وهو ما ظهر جليا فى أزمة مدينة عين العرب ( كوبانى ) . أما داود أوغلو ( واحد من أهم العقول الاستراتيجية التى تركت بصمتها على السياسة التركية ) فقد استهل رئاسته للوزارة باستكمال التواصل مع الأقليات فالتقى بممثل طائفة السريان ، ثم كانت زيارته لدورعبادة الطائفة العلوية وزيارته لمدينة طونجلى ذات الأغلبية العلوية ودعوته لممثل الطائفة لحفلة عشاء فى مقر رئاسة الوزراء . كما شهدت تركيا خلال الأسبوع الماضى زيارة بابا الفاتيكان لاسطنبول وإقامته لقداس فى إحدى الكنائس الأثرية بمنطقة شيشلى . أظن أن سلطة الحكم فى مصر الآن فى حاجة ماسة إلى دراسة هذا النموذج الرشيد فى التعامل مع الأزمات الداخلية بدلاً من ملء الفضاء بأحاديث الدم والهدم والخراب والضرب بالذخيرة الحية . فمثل هذه الأحاديث ستؤدى حتماً إلى تصفير " البشر " وليس " المشاكل " وعندها سيتحول الوطن إلى خرائب ينعق فى أرجائها البوم .