لعب الأزهر دوراً حيوياً فى النهضة العلمية والثقافية التى نشأت فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وكان لإنشاء دار العلوم والإستعانة بالأزهريين فى تدريس العلوم العربية بها أكبر الأثر فى الإحياء والبعث للعلوم العربية ، وكان الحسين بن أحمد المرصفى - موضوع دراستنا – أحد هؤلاء العلماء الأجلاء الذين ادلوا بدلوهم فى هذا المجال .. والمتتبع لحياة هذا الرجل يذهل من الانجارات التى فعلها ومع ذلك لم ينل من التكريم الذى صاحب غيره، مثل الدكتور طه حسين .... فهذا الرجل يعتبر بلا منازع رائد النقد العربى الحديث فى مصر إن لم يكن فى الأمة العربية ، قبل أن يبزغ القرن العشرون بنحو ربع قرن على نحو ما بعث به محمود سامى البارودى الشعر العربى الحديث ، وقد تمكن بفضل طاقته الأدبية واللغوية وحسه المرهف واتصاله بأحداث عصره ، أن يفرض نفسه على الحياة الفكرية والثقافية وأن يطبع بصماته على كل من جاء بعده من نقاد الأدب ودارسيه . وقد اجمع كل من أرخ له وتناوله فى دراسات بأن الرائد للنقد الأدبى الحديث ، وقد جمع فى مؤلفه الضخم "الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية" بجزئيه اللذين يبلغان 918 صفحة من القطع الكبير، لعلوم النحو والصرف والمنطق والبيان والمعانى والبديع والعروض والقوافى إلى جانب ما فيه من النصوص الأدبية والطرف والحكايات والنوادر التى تلذ العقول وتمتع القلوب، ومع هذا فليس الكتاب من كتب الأمالى العربية التى تجمع الشوارد والأوابد، ولكنه مؤلف نقدى، لصاحبه تصور كامل للعملية النقدية، ومنهج شامل تمكن من خلاله دراسة الأدب العربى قديماً وحديثاً، شعراً ونثراً ...وأضاف إلى حصيلة النقد العربى شيئاً أصيلاً ، بعد أن بعث كل المقاييس النقدية القديمة التى توارت خلف عهود العجمة والظلام ..
وقد شحت المؤلفات عن هذا الرجل الذى ملأ الدنيا علماً إلا العدد القليل من هذه الدراسات، وقد خصه بعض مؤرخى الأدب بدراسات شاملة عن حياته وأدبه مثل كتاب محمد عبدالجواد الذى ظهر منذ أكثر من ستين عاماً، وكتب بعضهم عنه الفصول المتناثرة فى الكتب والمجلات منها لمحمد عبدالغنى حسن، وجرجى زيدان، وأحمد حسن الزيات، ومحمد كامل الفقى .. وغيرهم . واليوم نستعرض ما كتبه الناقد الكبير الدكتور عبدالعزيز الدسوقى سواء فى مقدمة تحقيقه لكتابه الأهم الوسيلة الأدبية أو كتابه الآخر عنه بعنوان "حسين المرصفى" الصادر عن سلسلة "نقاد الأدب بهيئة الكتاب عام 1990.
أما عن حياته ومصادر ثقافته ، فلم يعرف الكثير عن تفصيلات حياته، فتاريخ مولده لم يعرف ... ويرجح الدكتور الدسوقى تاريخ ميلاده إلى أوائل القرن التاسع عشر، فى قرية مرصفا من إقليم القليوبية التى انجبت المئات من علماء الأزهر فى شتى المجالات، تعلم فى الأزهر الشريف وأحاط بعلومه المختلفة إحاطة دقيقة ، وبرع فى علوم اللغة من نحو وصرف وبيان ومعان وبديع ، وعرف منطق ارسطو من خلال الكتب التى كانت الأزهر وتوسع فيما يبدو فى الإطلاع على أمهات الكتب الأدبية القديمة ، وعاش مع الشعر العربى القديم فى كل عصوره ، وكان مكفوف البصر ، ذكياً متفتحاً على كل الثقافات وذلك راجع لتعلمه اللغة الفرنسية على طريقة بريل .
وقد ارتبط المرصفى بمجلة "روضة المدارس" منذ صدورها فى 15 محرم 1287ه (أبريل 1870) حيث نشر فيها ملخصاً للمحاضرات التى كان يلقيها فى مدرج دار العلوم ، ولقد احتفت هذه المجلة بمحاضرات الشيخ هذه، لأنها كانت تمثل زياادة حقيقية فى مجال النقد والدراسات الأدبية ، وكانت تلتزم منهجاً علمياً غير معروف بصورة كافية فى تلك الأيام ، وهذه المحاضرات هى نواة كتابه الهام "الوسيلة الأدبية"، وللرجل أعمال أخرى منها "الكلمات الثمان" وهو مبحث فى العلوم السياسية ، وتحدث فيها عن الوطن والحرية والدستور وغيرها من البحوث التى تدخل فى مجال العلوم السياسية، وتهدف إلى تربية الوجدان السياسى للشباب، والكلمات الثمان التى أدار المرصفى كتابه حولها : (الأمة – الوطن – الحكومة – العدل – الظلم – السياسية – الحرية – التربية )، ومن خلال شرحه هذه الكلمات عرض الرجل تصوره لفكرة الإصلاح الإجتماعى ، ونظم الحكم السليمة التى يجب أن تحكم من خلالها البلاد ، وللشيخ كتاب ثالث كبير مخطوط وهو "دليل المسترشد فى صناعة الإنشا"، وهو مجموعة من المحاضرات فى النثر الفنى والبديع .
وكتاب "الوسيلة الأدبية إلى علوم العربية" من أخصب الكتب التى شهدتها مطالع الحياة النقدية فى العصر الحديث ، وبالرغم من عدم طباعة الكتاب مرة واحدة فى سنة 1875، بمدارس المدارس الملكية بدرب الجماميز، وأعاد الدكتور عبدالعزيز الدسوقى نشره وتحقيقه بعد قدم له بمقدمة حافلة عرف قدر الكتاب ومؤلفه ، وهو الكنز الثمين وكان له الأثر النقدى الضخم فى أواخر القرن التاسع عشر ، يحمل أفكاراً هامة أثرت فى رواد النهضة الأدبية الحديثة وشكلت عقولهم وكونت أذواقهم ، وإذا كان البعض يتشدق ويرمى تراثنا بالتخلف والرجعية ، ويهرع إلى آداب الغير ليتكىء عليها فى الأدب ، ويصدع رؤوسنا بالمصطلحات الأدبية التى تصطدم مع الذوق الوطنى العام ، ويود لو فرضت فرضاً ، ويوازن الدسوقى بين الوسيلة الأدبية وكتاب "فن الشعر" للفيلسوف اليونانى أرسطو الذى وإن كان قد أثر فى النهضة الأدبية فى أوروبا بصورة واسعة ، واعتبر إماماً لكل النقاد الذين حملوا مشاعل التجديد فى الأدب الأوربى ، فإن كتاب "الوسيلة الأدبية" لعب هذا الدور فى النقد العربى الحديث ، وأثره فى أساتذة الأدب والنقد الذين حملوا لواء النهضة فى لغتنا العربية ، مع فارق واحد هو أن فن الشعر طبع مئات المرات وترجم إلى معظم اللغات ، واهتم به النقاد والدارسون ، أما الوسيلة الأدبية فلم يعبأ بطبعه إنسان على الرغم من إشادة الجميع بفضله ، واعترافهم بأستاذية مؤلفه .
يقرر الدسوقى "أن القيمة الحقيقية للمرصفى وكتابه وبخاصة كتابه "الوسيلة الأدبية" هى أنه ألهم الشعراء والأدباء وحرك مواهبهم واستجاش ملكاتهم ، وقد أشاد البارودى ، واعترف بأنه تتلمذ عليه وعلى صاحبه ، وكذلك اعترف شوقى والرافعى والعقاد بتأثير هذا الكتاب عليهم ، وهذا ما يجعل المرصفى من أهم رواد البعث الأدبى الحديث "