لم تعد هناك قضايا تحظى بإجماع القوى السياسية ، و يبدو أننا ينبغي أن نعتاد على ذلك من الآن فصاعداً ، و لكن ما يميز المرحلة أن العناوين الكبرى لها تحظى باستقطاب مرضي طفولي تزكيه وسائل إعلام يدرك أغلبها أن دورها ينتهي ، و أنها تحتضر ، و أن مشاركتها المتطرفة تعطيها نفساً جديدا للحياة . ... و إليك بعضا من هذه العناوين ، أولا : المجلس العسكري : : ليس ثمة خلاف على كونه رمزا للجيش الذي يجله المصريون ، كما أن أنفاس المتظاهرين ، كانت تشهق في الأسبوع الثاني من انطلاق الثورة ، متسائلة ، هل سيقف الجيش معنا ؟ أم سينتصر لواحد من أبنائه و هو الرئيس المخلوع ؟ و هدأت القلوب و تطاولت الآمال حين تأكدنا من انحياز الجيش للثورة ، و انعقاد اجتماع 10/2 الذي أدركنا معه قرب سقوط "مبارك " , ودون الخوض في تفاصيل يعلمها الجميع ، فإن "المجلس العسكري" أدار المرحلة بقرارات كانت محل تقدير أحيانا و انتقاد أحيانا أخرى ، و تسبب الإصرار الثوري علي تنفيذ مطالب بعينها ( مثل تطهير الداخلية – محاكمة مبارك و عصابته ...) فى إرباك "المجلس" الذي لا يمتلك الخبرة الكافية في الإدارة السياسية ، و تسبب هذا الارتباك في " تباطؤ " فسرها البعض " بالتواطؤ " و هنا ظهر فريقان ، فريق يعتبر المجلس " خائناً " للثورة و يطالبون بإسقاطه !! ، و أنه باع دم الشهداء ، و أنه قام بانقلاب على مبارك لمصلحته لا لحماية الثورة ، و أن و أن ...، و فريق ثانٍ يعتبره الدرع الواقية للوطن و الثورة ، و أن انتقاده خط أحمر ، و أن " كل " التباطؤ " مبرر " و عدم التصدي لتنفيذ مطالب الثورة سببه انهيار البلد و صعوبة إصلاحه ... وهكذا يدور المواطن الذي ثار و أيد الثورة ، بين شقي رحى ، بين " ملائكية " المجلس و " شيطنته " ... و الواقع الذي يعلمه الجميع ، أن " المجلس " ليس ملاكا و لا شيطانا ، و أن قرارته السياسية قابلة للنقد ، فالإسلاميون الذين يدافعون عنه ، انتقدوا موقفه من قانون الانتخابات الأخير ، و انتقدوا الاعتماد على رموز النظام السابق في المراكز القيادية ، و التباطؤ في المحاكمات ، و التأخر في الالتفات لحقوق الشهداء ... و هذا حق و لكن اعتبار نقده" خطا أحمر " فهذا خطأ وقع فيه بعض غلاة الإسلاميين ، وأما اعتباره "شيطانا "فهذه خطيئة تقع فيها قوى ثورية مركزها المعتصمون بالتحرير . . و الخلاصة ، أن المجلس يؤدي دوراً سياسياً ، ينبغي مؤازرته ، كما يجب ترشيده ، يخطئ و يصيب ، لا نسمح له بالدكتاتورية و لا باتهام الأشخاص أو القوى بلا دليل ، لكننا لا نرى المصلحة في معاداته أو إسقاط قيادته ، و نرى أن هذا يربك الأوضاع و يزيد الضبابية ، و لا يساعد في ضبط إيقاع المرحلة ، و أن التوحد حوله مع ترشيد حركته هو أفضل خيارات المرحلة و أوجبها . . ثانيا : معتصمو التحرير : وضع المعتصمون أنفسهم في مركز الخصومة و التناقض من " المجلس العسكري " ، و هم أشد الناقدين لدوره .. ، و ازدادت الحدة بعد الهجوم الإعلامي من بعض العسكريين على المعتصمين ، و الاتهامات التي تساقطت عليهم من كل صوب و حدب ، حتى اعتبروا أنفسهم "ضحية" للجميع , للدرجة التي منعوا قناة الجزيرة و ال بي بي سي من دخول الميدان و اعتبارهم مع " إعلام الإسلاميين " متواطئين ضد الثورة و ضدهم !، و احتدم الأمر " بحادثة العباسية " التي يتهمون فيها الشرطة العسكرية و رئيسها بتدبير " فخ " لتأديب المتظاهرين ، و دللوا على ذلك بالحياد السلبي للشرطة العسكرية , و عدم تدخلها لإنقاذ المتظاهرين من أيدي البلطجية ، أما اتهامهم بالمروق الأخلاقي و تعاطي المخدرات و خلافه ، فقد حسم الموقف إلى معسكرين : التحرير و أنصاره من جهة ، و المجلس العسكري و أنصاره من جهة أخرى . . والواقع أن " جوهر " المعتصمين من أبناء الثورة ، و أن مطالبهم عادلة ، و أن إصرارهم محمود و أتى بنتائج رائعة .. كما أنهم لا ينكرون أن بينهم من ليس منهم ، و أن القوى الماركسية ظهر بريقها في " خلق " " تناقض " لا يمكن تجاوزه إلا بأقصى مدى للثورة , وهو الصدام بين الثوار و" المجلس العسكري" ... و( التناقض) أساس ماركسي لتطوير المواقف السياسية ، و المتناقضان أحدهما " أبيض " و الآخر " أسود " ، " صاحب حق " و " مغتصب حق " ... " المعتصمون " و " المجلس العسكري "! ... هذه أيضاً آلية وجدت طريقها إلى الميدان ، و تستهوي الشباب المثالي الذي توجس على ثورته من الضياع ......... و هناك –أيضا - مأجورون ، و هناك وجوه جديدة و غير مألوفة تفاجأبوجودها الثوار أنفسهم ، هذا محصلة ما عرفني عليه بعض هؤلاء المعتصمين من أبناء الثورة . . و الخلاصة أن المعتصمين في الأصل " ثوار أطهار " مطالبهم محل إجماع ، لكنهم فقدوا الثقة في إدارة البلاد ... و الحل ليس في سبهم ، و لا إجلائهم ، و لا في اعتبار " المندسين " هم من يتخذون لهم القرارات ... " و الحوار ليس هو الحل " ... الحل هو جدية تنفيذ المطالب.....حينها سيظهر " الثائر الحق " من " مشعلي الحرائق " ... و حين تتحقق المطالب سيبرئ "المجلس العسكري" نفسه مما لحق به من اتهامات جائرة لا نرضاها ، و سيعود إلينا " المعتصمون " آخذين موقعهم " كلهيب طاهر " لثورة منتصرة . . ثالثا : التمويل الأجنبي : حسنا ما فعله الإخوان و القوى السياسية حين رفضوا اتهام " جماعة 6أبريل بتلقيهم تمويلا أجنبيا دون تقديم أدلة ، و هذا دور القوى السياسية ... أما أصحاب الأقلام فدورهم التنبيه إلى المخاطر و تشريح الجسد لإخراج الأعطاب منه .... فالمؤكد أن التمويل وجد طريقه إلى القوى السياسية و الحقوقية ، و الأسبوع الفائت شهد اعترافات من جمعيات كثيرة بتلقيها الأموال الأجنبية ، و حاولوا تبرئة ساحاتهم بإسباغ المشروعية على أنشطتهم و أن أجندتهم مصرية خالصة ، و أن " الممول " الأجنبي لا يستطيع التدخل في أجندة " الممنوح " المصري !! ... و قد شاهدنا كيف اعترفت منظمات " لحماية المرأة " و " التوعية الدستورية " و " أنشطة العصيان المدني " ، بل إن " 6 أبريل " أنفسهم اعترفوا بأسفار إلى دول أجنبية قامت بالصرف الكامل على هذه السفريات و التدريبات الملحقة بها ، ثم تتالت اعترافات ناشطين وناشطات بالسفر والتدريب السياسي المكفول من ممولين أجانب , وساقوا مبرراتهم الوطنية علي ذلك , والتي صدمت كل الوطنيين , وكأن المعترفين يسابقون الزمن بتجميل الشكل غير القانوني للفعل , وذلك قبل أن يواجهوا بما فعلوه .... و أعتقد أن القريب العاجل يحمل لنا مفاجآت لشخصيات كبيرة ، قام دورها و تأسس على قاعدة من " التمويل الأجنبي " ,و لكن خبراتهم القانونية كانت سياجاً لتقنين الأموال الحرام . . إذا.... اللواء "الرويني" أخطأ في اتهاماته بغير دليل ... و لكن الواقع الماثل على الساحة أظهر الأدلة و وضعها كجرس إنذار أمام " الثوار " . و " الثوار " وحدهم هم من ينبغي أن يعطوا دفعتهم الثورية لمواجهة "الغول التمويلي الأمريكي و الأوروبي" الذي سقط به " رؤساء " و جعلهم مجرد " عملاء " ، لم يعد يعوزنا دليل على بحر " المال السياسي " الذي سيضمن للمشروع الأمريكي و الصهيوني حضورا في مشهد " بناء الدولة المصرية ". قال لي صديقي الليبرالي الوطني ( لا أحب أن أتحدث عن زملائي, و لكن حين أخبرك عمن تلقى أموالاً أمريكية و أوروبية ستذهل من الأسماء و من حجم الأموال ... أنا نفسي اقتربت من مد يدي ... و لكن ضميري أدركني) " . إن التحدي الذي تواجهه القوى السياسية كبير و مشكلة التمويل هي قضية " أمن قومي " بكل ما تحمله من مخاوف ... و ما لم يدخل المال الوطني باشتراك الجماهير في الفاعليات السياسية و تمويلها لها ، و ما لم نشيد سدودا قانونية في مواجهة التمويل الأجنبي ... ما لم يحدث هذا.. فإما أن تخمد جذوة العمل الوطني ، و إما أن يتسرب إلينا سرطان التمويل الأجنبي . [email protected]