"لا تأخذ بالمظاهر.. فهي خادعة" فإذا ذهبت إلى القرية الصغيرة المتواضعة، وشعرت بالحياة التي تنبض فيها بصورة طبيعية، ورأيت الأطفال وهم عائدين من مدارسهم عند الظهيرة يمشون باطمئنان تتخلل خطواتهم مرح مرهق، وآخرين ألقوا بشنطهم جانبًا وأنفقوا ما تبقى معهم من مصروف اليوم على "ناهيا لاند"؛ حيث بعض الألعاب الترفيهية على إحدى حافات ترعتها، لما صدقت أن شهرًا لا يمر على تلك الأرض الطيبة بأهلها البسطاء إلا وقد باغتتهم قوات الأمن بزيارة أو اثنين، على أمل ألا يخرجوا "وأيديهم فارغة". عام ونصف من المطاردات مرت على القرية الجيزاوية، فبعد أحداث 3 يوليو لم يؤرق السلطة بعد اعتصامى رابعة والنهضة كما أرقتها تلك القرية والأخرى المجاورة لها "كرداسة"، مما جعل مداهماتها بحملات أمنية تختلف في حجمها طقسًا لوزارة الداخلية، لا يكاد يمر شهر إلا وأدته، كانت أكبرها في شهر سبتمبر 2013 عندما قام بعض الأهالي باقتحام قسم كرداسة، وقُتل المأمور، فقامت قوات الجيش والشرطة بتطويق كرداسة وناهيا، وقامت بحملات ألقت خلالها القبض على العشرات، ومات وأصيب فيها العشرات أيضًا، وظلت القرية تحت حصار الأمن أسابيع. استمرت التظاهرات الليلية في ناهيا؛ حيث يخرج عشرات الأهالي رافعين صور الرئيس المعزول محمد مرسي، يجيبون أرجاء القرية ثم يعودون، في طقس بات يشبه النزهة الليلية، وعلى الرغم من أن تلك التظاهرات لا تقطع طريقًا، ولا تؤرق الشوارع الرئيسية في شيء، إلا أن الأمن خرج كالعادة يوم الأربعاء الموافق 12 نوفمبر لتفض المسيرة، فأودت الرصاصات العشوائية بحياة أربعة مواطنين، لتخرج الداخلية تتبرأ وتؤكد أن رصاصاتها بريئة، وأن مَن قتل الضحايا مسلحون في القرية، وفي محاولة للوصول إلى حقيقة ما حدث.. التقت "المصريون" بعائلات اثنين منهم.
خالد الرشيدي.. خرج لشراء ذهب شبكته فابتاعوا له كفنًا استأذن من عمله مبكرًا ساعتين، عاد إلى منزله مسرعًا ليصطحب والدته، ويلتقي بخطيبته على الطريق ليذهبا سويًا لشراء شبكة خطبتهما فما أن وصلا إلى المحل الذي كان يستعد لغلق أبوابه قصرًا بأمر من قوات الأمن المتجولة في المكان، لم يعد خالد ب"خفي حنين" حاملًا خيبته وتخوفه من ألا يستطيع الاستئذان من عمله مبكرًا مرة أخرى، فهو لم يعد من الأساس، فلم يشتر ذهبًا لحضور عرسه، بل اشتروا له كفنًا لحضور مراسم عرس آخر كان في انتظار الشهيد خالد الرشيدي، عضو 6 إبريل، وأحد ضحايا الهجوم الأخير لقوات الأمن على ناهيا.
"كان ماسك في يدي فجأة أفلتت يده وسقط بجواري على الأرض، ظننت أن الأمر لا يتعدى إغماءه من الأحداث، فقط دمه الذي تعلق بيدي عندما حاولت إفاقته أخبرني أن الأمر أكبر من ذلك" بعيون أرهقها كثرة البكاء، وصوت اختنق يلح على الكلام حتى يخرج روى حسام النجل الأصغر للشهيد لحظات وفاته، مشيرًا إلى أنه كان بصحبته ووالدته خلال ذهابه إلى شراء ذهب خطبته، وبعدما وجدوا المحل يغلق أبوابه، عادت أمه، وذهب مع أخيه لإيصال خطيبته وشقيقها، بعدها تركه وعاد إلى البيت، إلا أن شعورًا ما تسلل له جعله يخرج من البيت مرة أخرى.
"شعرت أن أخي بحاجة لي" قال حسام، مضيفًا: وعندها التقيت بصديقين لخالد، وقابلناه في الطريق وخلال عودتنا كان الكوبري الجديد به مدرعات أمن مركزي، فذهبنا إلى الكوبري القديم والتي كان بجواره مدرعات تغادر، إلا أنها فجاه استدارت مرة أخرى وضربت طلقات عشوائية على الواقفين، فما وجد خالد إلا بجواري، مؤكدًا أن في ذلك الوقت لم توجد أي مظاهرات أو مسيرات، فقد فُضت قبلها بساعتين.
وتابع: ذهبنا بأخي إلى قصر العيني فتركوه ينزف على الأرض وفتحوا تحقيقًا معنا، أين كان؟ وأين كنتم؟؟ وكيف أصيب؟، كل ذلك وكل ما فعلوه وضعوا له جهاز تنفس صناعي، وهنا تدخلت أمه في الحديث ببكاء شديد: "تركوه يموت حتى تموت الحقيقة معه". "ليه كده الشباب عملوا ايه.. عشان ايه الشباب المتعلم المتنور اللي عارف أمور دينه يتعمل فيه كده.. دول إرهابيين.. واللي أنتم بتعملوه مش إرهاب عايزين تطلعوا الناس إرهابيين، لو واحد من الرؤساء ابنه دخل عليه مقطع هيعمل ايه" بتلك الكلمات التي خرجت بصوت أقرب للصراخ يعتصره الألم نعت أم خالد نجلها، والذي جاءها خبر إصابته بعد أن تركته بنصف ساعة من عمه، فذهبت لتبحث عنه فلم تجده إلا في المستشفى غارقًا في دمائه.
أما والده فلقد كان أكثرهم جلدًا وصبرًا، مرددًا: "حسبي الله ونعم الوكيل.. الله يرحمه ويسكنه الفردوس الأعلى" إلا أن ذلك الجلد لم يستمر طويلًا، فما أن بدأ الحديث عن جنازة ولده الأوسط، وكيف أنها كانت أكبر جنازة شهدتها ناهيا في المطلق لدرجة أن بعض المشيعين صلوا الجنازة على أظهر السيارات بدأ في الانهيار، مسرعًا لمسح دموعه التي أفلتت من قبضة عينيه.
أما شقيقته الوحيدة فقد جاءها الخبر هاتفيًا قائلا: "تلقيت اتصالاً يسأل عمن مات في منزلنا، لم نكن نعلم شيئًا قالوا إن قناة الجزيرة كتبت خبر استشهاده، فتحت القناة مسرعة لأتسمر أمامها ما أن رأيته، ذهبت إلى المنزل بصحبة نجلي الصغيرين فلم نجد أحدًا كانوا جميعًا في المستشفى"، وتابع: "لم يكن أخي كان صديقي وحبيبي، إذا أردت أن أنزه أبنائي هو من يصطحبنا، وإذا مرضوا هو من يأخذهم إلى الطبيب".
وصية الشهيد أما شقيقه الأكبر أحمد فقد بدا بحالة لا تقل عن سابقيه، متسائلًا: عن الذنب الذي اقترفه شقيقه حتى يقتل بتلك الطريقة، قائلًا: أخي كان بيحب مصر، له صورة خلال تأدية الخدمة العسكرية التي خرج منها قبل ثلاثة أشهر مع العلم، بعد وفاته قرأت في مذكراته عبارة "أنا بحب مصر وهموت عشان مصر حتى لو مش في الجيش هموت برضه عشان مصر"، مشيرًا إلى أن شقيقه حصل على شهادة من الجيش كالجندى المثالي، كما كان على علاقة طيبة بالضباط في كتيبته، وكانوا يتواصلون معه ويسألون عنه، لدرجة أن أحد الضباط قال له إذا لم تعزمني في زفافك فلن أعرفك ثانية، مؤكدًا أنه لم يكن يشارك مع مسيرات الإخوان، وكان عضوًا ب6إبريل ومع ذلك كان يتحسس كلامه في السياسة. وأوضح أحمد أن آخر وصية لشقيقه وهو في المستشفى إعادة مبلغ 700 جنيه معه إلى أصحابه، مشيرًا إلى أن قبل الحادث بيومين وبعد عودة أخيه من عمله كمندوب مبيعات أدوية وموزع، وجد مبلغ 700 جنيه زيادة في الفلوس، وإصابة الضيق بسبب ذلك المبلغ وعدم معرفة صاحبه، وبدأ في الاتصال بأصحاب الصيدليات وسؤالهم، إلا أنه مات قبل أن يصل إليهم، ونحن ظللنا نبحث تنفيذًا لوصيته حتى أعدنا المال إلى أصحابه.
" أبو كوع".. خشي السياسة فمات على أنقاض تظاهراتها ربما أصعب ما في الأمر أنهما لم يقررا بعد أن يفترقا، جاءهما الأمر فرضًا لا طوعًا، فجأة اكتشف كل منهما أنه لم يعد قادرًا على رؤية الآخر، فقد حان وقت الرحيل وعلى المتبقي أن يكمل وحده. هو إذا حال أسرة من زوجة وطفلين أكبرهما في عامه الثاني الابتدائي وأم يطالبوها بالصبر على فقد ابنا هو لم يكمل بعد عامه 26. محمد أبو كوع فقيد السياسة الذي كان يخشاها، الراحل على أنقاض تظاهراتها رغم مطالبته بالكف عنها. ما أن تدخل الشارع الذي يقع فيه بيته، إلا أن يخطف عينك تلك النسخ المنتشرة على جدران منازله تحمل صورة شخصية له ومصحوبة باسمه مسبوق بلقب "الشهيد". فور وصولك إلى بيته تجد كل شىء متشحًا بالسواد البشر وحتى الحجر، وكأنه يقول لك ثمة فقيد رحل عن هذا الدار، لا تحتاج إلا لبعض لحظات لتستكشف وحدك الحضور من منهن جاء ليواسي ومن وصلت معه الفاجعة لمداها. " مكنش له في السياسة... يوم ما مات الشارع اتقلب... قعدت اسأل فيه إيه مرضيوش يقولوا لحد ما واحد قالي محمد اتصاب"، تحكى أمه تلك السيدة الستينية عن لحظة معرفتها خبر إصابة ابنها. تتابع: "قعدت أصوت ولميت الشارع علىّ لحد ما كلموه وسمعوني صوته". وتضيف أن صوته جاء ضعيفًا، بعد ساعتين جاءوا به إلى المنزل بعدما قد قام مستشفى القرية بإجراء خياطة له على الجرح الذي أصيب به نتيجة لتواجده "بالصدفة" في مكان التظاهرات، وقيل له في المستشفى إن الجرح سطحى، عقب دخوله إلى الدار بدأ معه نوع من الألم المتصاعد في منطقة أسفل بطنه والحوض. وهنا تتدخل زوجته تلك السيدة التي لم تتجاوز 22 عامًا وبدت من جلستها أنها لم تستوعب بعد صدمة رحيل زوجها، فراحت تحكي ليلة سقوطه من قبل خروجه من الدار وحتى بعد دخوله محمولا على الأكتاف. " يوم ما مات محمد كان رايح فرح صاحبه، كان عايز يحلق والحلاق قاله بلاش تيجي عشان قوات من الجيش واقفة عند المحل ومش هعرف أشتغل"، تتابع أن الحلاق اتصل به بعد ساعة وأخبره أن الأوضاع راحت إلى الاستقرار ويمكنه أن يحضر، مشيرة إلى أن التقديرات لم تكن سليمة فعند وصوله إلى المحل جاءته رصاصة غير معلوم مصدرها، رغم أن حضوره كان بعد انتهاء مظاهرة معارضة للنظام بساعتين تقريبًا أي أنه من المفترض أن يكون كل من المتظاهرين والشرطة قد رحلا عن المكان. بعد إصابته أخذوه إلى مستشفى القرية وهناك أخبره الطبيب ما أخبره أن الجرح سطحي وقام بتخييط الإصابة بدون أن تخرج الرصاصة، وعقب وصوله إلى البيت شعر بألم متصاعد"، اخبرنا بألم واعتقدنا أنه شيء طبيعي بعد تخييط الجرح"، تقول زوجته: "ولكن تعبه كان بيزيد، وطلب مني أقلعه هدومه مكنش طايقها"، ولفتت إلى أن جسمه كان متقلب الحرارة بين الساخن وشديد البرودة، ثم أخبرها بشعور بوجود شىء ما يتحرك بداخله، فأخبرته أن أخوته سيصطحبونه إلى المستشفى في الفجر. وتابعت: "طلب يشوف عياله، مكنتش عايزاهم يشوفوه في الحالة دي... ماجبتهومش له يا رتني كنت جبتهم... مكنتش أعرف انه هيخرج مش هيرجع"، وهنا تدخل لأول مرة في نوبة بكاء هادئة يشير إلى أنها لم تستوعب بعد حجم الصدمة، وتواصل الحكي: "لما وصل مستشفى قصر العيني، قاموا بعمل أشعة له، واكتشفوا وجود نزيف داخلي، فقرروا بناءً على ذلك إجراء عملية له، إلا أنه لم يخرج منها إلا مفارقًا للحياة". وتكمل متسائلة: "مش عارفة أصرف على عيالي ازاى... هو كان خضري ورزقنا باليومية"، مشيرة إلى أنه قبل وفاته كان يلح في مطالبتها على رعاية غية حمام يمتلكها كانت أحد أهم اهتماماته، وكان يوصيها أن تأخذ فلوس من جيبه لتشترى لهم طعامهم". شاهد الفيديو :