كثيرة تلك الدروس التي علمتناها الثورة. وعندما نتعلم الدرس بالتجارب والأحداث، بالزلازل وبالمحن، تزهر ثمرته تغييرا في النفوس والأفهام، كما تزهر في الكون والآفاق. عنوان أول الدروس طبيعة الحق والباطل. فالحق خالد أزلي، لا يغيره سلطان، أو جنود، كما لا يغيره إعلام، أو حشود. والباطل أشبه بالظل الذي لا أصل له، بل سراب لا ماء فيه. والحق وإن خفت معالمه، فجذوره قديمة قدم الدهر، بل يزيد. والباطل وإن علت رايته، فهي منكوسة وإلى زوال مصيرها. والباطل وإن تسربل رجاله ونساؤه بسربال العزة والفخار، وشمخت أنوفهم فوق رؤوسهم حمقا وجهلا منهم بقدرهم، فإن قدرهم موضوع، وإن سربالهم الصغار والاستحقار لا الرفعة والفخار. فلم إذا قد تكون صورة الحق والباطل على غير الحقيقة بادية؟ الجواب: ليُعرف أهل كل فريق. ومن دروس الثورة: فهم حقيقة القوة والضعف. فقوة الحق قد تكون كامنة والضعف باديا. وكم كان الضعف باديا على فريق الحق، فجعله وحيدا هزيلا كمسافر انقطعت به سبل السلام. وقد يكون الضعف كامنا والقوة بادية على الباطل. وكم كانت قوة الطغيان بادية على فريق الباطل، في سلاحه، وفي معلوماته، وفي خططه، وفي أركانه. لكن الثورة علمتنا أن القوة إنما هي قوة الحق، وأن الضعف مآل الباطل الذي تأسس عليه، وإن طال أمده. حقيقة النصر والهزيمة. النصر يتحقق أول ما يتحقق في النفوس. فعندما تميز النفوس الحق من الباطل، وعندما تبصر بعد عماية، تكون بداءة نصرها. والهزيمة تقع أول ما تقع في العقول والقلوب، فتنطمس العقول وتعمى القلوب. فهل كان يدور بخلد أولئك الطغاة أنهم مهزومون؟ لا أشك في أن الهزيمة لم تطرق بواده تفكيرهم، وأنهم ظنوا بأنفسهم أنهم المنتصرون لا ينهزمون. إن الهزيمة أشد ما تكون في خذلان نصرة الباطل والاستماتة في الدفاع عنه، وفي خذلان الحق وأهله ومحاربتهم. سلاح العقل الجمعي. ذلك السلاح الذي طالما غفلت عنه الشعوب. فلم تدر كيف ومتى تصوبه. فعندما تجتمع عقول الشعوب، تصبح سلاحا فاعلا لا يقف له شيء. وعندما اجتمعت عقول شعب الثورة على فكرة واحدة؛ على رفع قيد الظلم والطغيان، تحررت. تحررت بعد طول إسار. فعلى الشعوب أن تبحث عن ما يجمعها، ولا يفرقها. عليها أن تبحث عن هوية، وعن هدف. فإن فعلت، لم يسقط من يدها هذا السلاح. ومن دروس الثورة درس القدرة الإلهية. فمن كان يظن أن هذه الجيوش من الجبابرة غلاظ الأفئدة تنكسر؟ ومن كان يظن أن من كان بالأمس القريب يقتل من يشاء ويترك من يشاء، تبرق عليه شمس النهار، لا يدري إن كان يرى غروبها؟ ومن كان يظن أن من كان لا يقوى على الكلام إلا همسا، يصبح له صوت وصيت؟ بل يصل صوته إلى سمع الملايين، وترتشف حبر أقلامه صفحات الجرائد والمجلات، ويظهر على الفضائيات. درس آخر لا أخير. إن أعداء الشعوب لا ييأسون. فكم ساء أمريكا سقوط رجالها! وكم حاولت ترميم أصنامها! وكم تحاول إجهاض الثورة عن أهدافها! وها هي عصابة المنتفعين من أصحاب الفكر البالي العقيم يريدون إرجاع عقارب الساعة وساعات الزمان وراء وراء. يريدون للشمس أن تعود إلى مشرقها، وللنجوم أن تخفت بعد وميض. إن الشعوب وإنت كانت تسير خلف قادتها، فهي التي تقدم هؤلاء، وهي التي تختار من تشاء. إن الشعوب وإن كانت تسلم لهؤلاء قيادها، فإن عليها ألا تسلمه إلا لمن تأتمنهم وتحترمهم وتفضلهم على غيرهم. ودماء الشهداء دروس. وبكاء الأمهات دروس. ونحيب الأطفال دروس. وإقدام الفتيان دروس. ومروءة الشباب دروس. ودعوة المظلوم دروس. وسجن البريء دروس. وصرخة الكبير دروس. وشجاعة الشجعان دروس. وحزن الثكالى دروس. ودمعة الصغير دروس، وبسمته دروس. وفي الثورة دروس بعد دروس