ما حدث أمس في سيناء فاجعة بكل المقاييس وعلى أكثر من صعيد ، سواء صعيد الضحايا والشهداء وعددهم الكبير بل الأكبر في الإطلاق في أي مواجهة مع المجموعات الإرهابية ، أو في السهولة التي تمت بها العملية ونفذت بتكتيك عسكري تميز بالسرعة والمفاجأة والإحكام ، أو في دلالتها على تنامي قدرات الإرهاب وضعف الاستعدادات الملائمة لمواجهته وهي مسؤولية خطيرة ، لأن العملية وقعت في منطقة هي منطقة عمليات وطوارئ منذ سنوات ، ويفترض أن القوات الموجودة هناك تتحسب للخطر في كل لحظة وهي على أعلى درجات التأهب والاستعداد ، فأن يحدث ما حدث رغم كل تلك الظروف فهي مصيبة كبرى ، وأن يتم تكرار مثل هذه العمليات بصفة مستمرة وبتنامي للوحشية فهي مصيبة أكبر ، وقد قال الرئيس السيسي في كلمته اليوم أنهم كانوا يعرفون أن هذا سيحدث منذ 3 يوليو إطاحة مرسي وأنهم كانوا يتوقعونه ، وهذا ما يجعل المسؤولية مضاعفة ويسأل عنها هو شخصيا والقيادات العسكرية والاستخباراتية ، لأنه إذا كنتم تعلمون ذلك وتتوقعونه فالسؤال البديهي ، ماذا جهزتهم له للحيلولة دون نجاح الإرهاب في تحقيق مبتغاه ، وماذا أعددتم لمنع هذه الدماء الزكية من أبنائنا الجنود أن تراق بهذه البساطة وبنمط متكرر ، بينما نحن مشغولون بماراثون الدراجات والاحتفالات التليفزيونية . هناك قاعدة أساسية في هذا الموقف العصيب الذي يقف فيه الوطن ، وهي أنه غير مسموح للإرهاب بأن ينتصر في تلك المعركة تحت أي ظرف من الظروف ، والمصريون ينبغي أن يقفوا صفا واحدا في مواجهة هذا الإرهاب الأسود ، حتى من يعارض النظام الحالي ، لأن هذا الإرهاب ليس بديلا بأي معيار ، بل هو كارثة على الوطن ، وعلى أي نظام آخر أيا كانت وجهته ، وبعض التجارب المحيطة بنا تكفي لوضوح هذا الدرس ، ولا يمكن أن يكون مسار الوطن ومستقبله ، بعد ثورة سلمية تاريخية رائعة كثورة يناير ، أن يكون أسيرا لهؤلاء الوحوش الآدمية ، مهما تحصنوا بشعارات دينية أو سياسية ، أو تترسوا خلف مظالم يعاني منها كثير من أبناء الوطن . ومن ثم ، فلا اختلاف مع الرئيس السيسي في قوله تعقيبا على الأحداث أن الوطن في خطر وأننا نواجه معركة وجود وأنه لا بد من تلاحم الشعب مع الجيش في تلك المعركة وأن لا نعطي الفرصة لأحد أن يدخل بين الجيش والشعب ويوقع بينهما ، هذا كله صحيح وندعوا له ونؤكد عليه ، ولكن الخلاف دائما يكون في التطبيق ، وفي التفاصيل ، لأن سياق السياسات العامة في الدولة حاليا لا يعطي انطباعا بأن هذه الرؤية واضحة لدى صاحب القرار في أي مستوى من مستويات السلطة ، ولعل السيسي تبلغه بوضوح التقارير التي تؤكد انحسارا تدريجيا في شعبيته ولأسباب لا صلة لها بالإرهاب ولا المؤامرات المزعومة ، وأن قطاعا يتعاظم من مؤيديه السابقين والذين علقوا عليه آمالا في مستقبل أفضل ، أصيبوا بالإحباط وبدأت موجة الغضب والنقد تتحرك في ثنايا سطور كتاباتهم أوتصريحاتهم أو مواقفهم السياسية ، كما لا أظن أنه يخفى عليه أن الإحساس بالظلم والهوان واستباحة الكرامة يتزايد لدى عموم المصريين في الأشهر الأخيرة وبصورة شديدة الوضوح ، حتى لدى المواطن العادي ، الذي ما إن تسوقه الظروف إلى الاصطدام بالدولة وجهازها الإداري أو الأمني في أي موقف عارض إلا ويشعر بالقهر والسحق لكرامته وربما خسارة حياته أو حياة فلذات أكباده لتذهب في الهدر والتراب وسط تواطؤ مؤسسي شامل يحتقر المواطن ، لا أظن أنه يخفى على السيسي أن الحملات المبالغ فيها في الاعتقال والسجن والمحاكمات الأسطورية لعشرات الآلاف من المواطنين على خلفية "الاشتباه" في أنه إخواني أو لتظاهره في أي موقف ، قد أدت بأي شكل من الأشكال إلى بسط الأمن ، بل الأمن ازداد انهيارا بسبب التوسع في الإجراءات الأمنية ، واكتظت السجون عن آخرها بساكنيها من السياسيين والمعارضين دون أن يتوقف غضب الشارع ولا صوت الإرهاب . جيد جدا أن يتحدث السيسي عن أهمية الظهير الشعبي في معركة الإرهاب ، وأن المواجهة تكون بتلاحم الشعب والجيش ، ولكن هذا يقتضي أن يكون للشعب كلمته وإرادته الحرة من خلال مؤسسات منتخبة وحرة ومستقلة وليس عبر بهلوانات من حفريات النظام القديم يتم تكليفهم بالبحث عن صيغة لإيجاد برلمان "كده وكده" ، أو عبر أصوات بعض "السفلة" في الإعلام "الأمني" الذين يوزعون الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال بالخيانة على كل معارض أو مختلف أو حتى مؤيد لثورة يناير ، وكلنا يعرف من يحمي ظهر هؤلاء "السفلة" ومن يدعمهم ومن يوجههم ، ولا يخفى على السيسي أن "الشعب الحر" هو وحده الذي يملك القدرة على خوض معركة الوطن عند الحاجة ، ولكن "العبيد" والمستباحة كرامتهم يشعرون بالغربة في أوطانهم وأنهم مجرد متفرجين على مباريات أو منازلات لا صلة لهم بها وليس بيدهم شيء يفعلونه فيها إلا سماع أغاني "تسلم الأيادي" ، جيد أن يعترف السيسي بأن تضامن الشعب مع جيشه شرط للنصر على الإرهاب ، والأمر كذلك فعلا ، ولكن عليه أن يعترف بالتبعية أن إنقاذ الوطن أمنيا وعسكريا وتنمويا ، ليس إرادة عسكرية سحرية ، ليس عبر خرافة "الرئيس الدكر" ، وليس عبر تمكين أجهزة الأمن والمخابرات وسيطرتها على كل خلايا المجتمع من الإعلام للبرلمان للجامعات للنقابات للأحزاب ، وإنما بأن ينجح الوطن في ترسيخ قيم الحرية والكرامة الإنسانية والديمقراطية والشفافية التي تكشف كل عوار قبل استفحاله وتعالج أي انحراف قبل خروجه عن السيطرة وتبتر أي "خلايا فساد سرطانية" قبل أن تدمر الدولة بصمت . لا معنى للحديث عن "مؤامرات" خارجية أو أجنبية يتعرض لها الوطن وأن مصر مستهدفة ، وجيشها مستهدف ، والدولة مستهدفة ، فهذا في تقديري هروب من المسؤولية ، وبحث عن شماعة لإلقاء مسؤولية الأخطاء والتقصير وسوء الإدارة على مجهولين وعلى "الخارج" ، وهو تبرير للفشل يعطي الإحساس بالخوف من تكراره لأننا لم نتعلم من أخطائنا وألقينا بها على "الجن الأزرق" ، فالعنف الذي تواجهه مصر الآن ليس استثناء في المنطقة ، بل هو جزء من موجة تجتاح أكثر من بلد ، ويعاني منه عدد من الدول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وتونس والجزائر والسودان بدرجة أقل ، فأنت لست استثناءا لكي تكون مختصا بمؤامرة كونية ، وعليك أن تبحث في أسباب الفشل داخليا ، بدلا من تعليقه على آخرين ، لأن هذا سيفاقم أزماتك ، وسيجعلك لا تفيق من ضربة إلا على ضربة أخرى أشد من تلك القوى المجنونة . جيد هنا أن أذكر السيسي بأن مصر في الأعوام 2011 ، 2012 ، تقريبا انعدمت فيها أحداث الإرهاب تماما ، رغم الانفلات الأمني الفادح وانهيار أجهزة الشرطة واضطراب الأوضاع في البلاد ، اختفى الإرهاب وانزوى وفقد القدرة على أن يجد له أي بيئة حاضنة أو مبرر لوجوده أو نشاطه ، لماذا ، لأن البلاد كانت تموج بروح ثورة سلمية رائعة ، فتحت الآفاق كلها للأمل في حياة أفضل وتنفس الناس عبير الحرية بعد طول قهر وإذلال ، واتجه الجميع لمحاولة بناء وطن جديد أكثر عدلا وتسامحا وكرامة ، حتى التنظيمات والشخصيات "الجهادية" التي كانت متورطة في أعمال عنف سابقا ، اتجهوا جميعا لتأسيس أحزاب وعقد ندوات سياسية والمشاركة في مظاهرات وخوض الانتخابات النيابية ، بدا أن مصر تتفتح وتنهض رغم الفوضى ، ونجحت ثورة يناير في هزيمة الإرهاب بعنفوانها الشعبي وسلميتها والطموح الذي صنعته في خيال الأجيال الجديدة من كل التيارات ، وغني عن البيان أن انكسار هذه الموجة والإحباطات المتوالية ، أدت إلى انتعاش الإرهاب من جديد ، رغم عودة القبضة الأمنية بكل عنفوانها وقدرتها وتجبرها . أعتقد أن في خبرة السنوات الثلاث أو الأربع الماضية دروسا كافية لمن أراد الإصلاح فعلا ، أو هزيمة الإرهاب فعلا ، أو بناء دولة حديثة تنعم بالعدل والأمن والأمان والرفاه معا .