البيت الأبيض: المبعوث الأمريكي الخاص أموس هوكشتاين يزور إسرائيل اليوم    نتائج مزوّرة، حزب زوما يطعن بانتخابات جنوب أفريقيا    وقوع 4 هزات أرضية في جورجيا في يوم واحد    إطلاق قنابل ضوئية في أجواء المناطق الشمالية الغربية بقطاع غزة    الرابعة خلال ساعات، وفاة حاج مصري من الشرقية أثناء تأدية المناسك، وابنته تنعيه بكلمات مؤثرة    متى ينتهي وقت ذبح الأضحية.. مركز الأزهر للفتوى يوضح    مدفعية الجيش الإسرائيلي تستهدف بلدة "عيترون" جنوب لبنان    استشهاد 3 فلسطينيين جراء قصف إسرائيلي على غزة    حلو الكلام.. يقول وداع    "تهنئة صلاح وظهور لاعبي بيراميدز".. كيف احتفل نجوم الكرة بعيد الأضحى؟    حقيقة عودة كهربا إلى الدوري السعودي    يورو 2024 - دي بروين: بلجيكا جاهزة لتحقيق شيء جيد.. وهذه حالتي بعد الإصابة    مدرج اليورو.. إطلالة قوية لجماهير الدنمارك.. حضور هولندي كبير.. ومساندة إنجليزية غير مسبوقة    انخفاض درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حال. الطقس خلال أيام العيد    جثة مذبوحة وسط الطريق تثير ذعر أهالي البدرشين    زيجته الثانية أشعلت غضبهم.. الأبناء وأمهم يحرقون مسكن والدهم في الوراق    لجنة الحكام تُعلن عن طاقم تحكيم مباراة الزمالك والمصري البورسعيدي    عبير صبري: شقيقتي مروة «توأم روحي» و«لسه بتاخد مني عيدية.. فلوس ولبس وكل حاجة»    تشكيل منتخب النمسا المتوقع أمام فرنسا في أمم أوروبا 2024    الصحة تُوجه نصائح مهمة للعائدين من الحج.. ماذا قالت؟    إدمان المخدرات بين الهدف والوسيلة    الكنيسة الكاثوليكية تختتم اليوم الأول من المؤتمر التكويني الإيبارشي الخامس.. صور    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى ثانى أيام العيد الإثنين 17 يونيو 2024    صفارات الإنذار تدوى فى كيبوتس نيريم بغلاف قطاع غزة    محافظ جنوب سيناء يشهد احتفال أول أيام عيد الأضحى بالممشى السياحى بشرم الشيخ    حظك اليوم برج الجوزاء الاثنين 17-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    هل تتمتع الحيوانات بالوعي؟ كيف تغير الأبحاث الجديدة المفاهيم    عيد الأضحى: لماذا يُضحى بالحيوانات في الدين؟    فوائد إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية فوق أسطح المباني.. تقلل انبعاثات الكربون    في ثاني أيام العيد.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 17 يونيو 2024    أجهزة مراقبة نسبة السكر في الدم الجديدة.. ماذا نعرف عنها؟    كيف يمكن التعامل مع موجات الحر المتكررة؟    القافلة الطبية «راعي مصر» تصل القنطرة شرق بالإسماعيلية    لم يتحمل فراق زوجته.. مدير الأبنية التعليمية بالشيخ زايد ينهي حياته (تفاصيل)    العيد تحول لمأتم، مصرع أب ونجله صعقا بالكهرباء ببنى سويف    إيرادات حديقة الحيوان بالشرقية في أول أيام عيد الأضحى المبارك    بيلينجهام رجل مباراة إنجلترا وصربيا في يورو 2024    إيلون ماسك يبدي إعجابه بسيارة شرطة دبي الكهربائية الجديدة    موعد مباراة إنجلترا والدنمارك في يورو 2024.. والقنوات الناقلة    ممثل مصري يشارك في مسلسل إسرائيلي.. ونقابة الممثلين تعلق    وفاة الحاج الثالث من بورسعيد خلال فريضة الحج    وفاة خامس حالة من حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    هل يجوز بيع لحوم الأضحية.. الإفتاء توضح    عاجل.. موعد اجتماع لجنة تسعير المواد البترولية لتحديد أسعار البنزين والسولار    الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    المحامين تزف بشرى سارة لأعضائها بمناسبة عيد الأضحى    خفر السواحل التركي يضبط 139 مهاجرا غير نظامي غربي البلاد    زيلينسكي يدعو لعقد قمة ثانية حول السلام في أوكرانيا    متى آخر يوم للذبح في عيد الأضحى؟    أجواء رائعة على الممشى السياحى بكورنيش بنى سويف فى أول أيام العيد.. فيديو    بعد كسر ماسورة، الدفع ب9 سيارات كسح لشفط المياه بمنطقة فريال بأسيوط    ماذا يحدث في أيام التشريق ثاني أيام العيد وما هو التكبير المقيّد؟    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    فلسطينيون يحتفلون بعيد الأضحى في شمال سيناء    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    منافذ التموين تواصل صرف سلع المقررات في أول أيام عيد الأضحى    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد يحيي .. فارس الفكر الإسلامي
نشر في المصريون يوم 19 - 08 - 2014

ما أصعب أن يكتب الصديق عن صديقه في الأحوال العادية، فما بالنا إذا كتب عنه ينعيه بعد موته، فلا يكاد القلم يطاوعني وأنا أكتب عن صديقي وأخي الكبير الدكتور محمد يحيي حسن، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة. فماذا أكتب؟ هل أكتب عن خلقه الرفيع وبساطته وتدينه؟ أم أكتب عن عبقريته التي شهد له بها العلمانيون قبل الإسلاميين؟ أم أكتب أن اتجاهه واتجاه بوصلته الثقافية والفكرية .. حيث من الله عليه بالانحياز إلى الثقافة الأصيلة والفكر القويم، فأفنى عمره منافحًا عن دينه، ومدافعًا عن الثقافة العربية الإسلامية، ومنحازًا لهموم الصحوة الإسلامية ومشغولاً بقضاياها ومهتمًا بدفع ثقافة هذه الحركة المباركة إلا الأمام، واقفًا بالمرصاد ضد شبهات العلمانيين وزيفهم وادعاءاتهم وحملتهم على الدين والثقافة والتراث.
بدأت معرفتي بالفقيد الكبير عام 1988م، حيث كان مصدرًا لي في عملي الصحفي، ثم توطدت العلاقة يومًا بعد يوم، حتى صار لا يبرم أمرًا من أمور دنياه إلا بعد الرجوع إلى شخصي الفقير، حيث كنت أنوب عنه في قضاء حاجات الأسرة والأبناء، نظرًا لظروف مرضه الذي كان يمنعه من الحركة.
عرفت منه كيف بدأ حياته في الإسكندرية، ثم انتقلت الأسرة إلى القاهرة لظروف عمل والده – رحمه الله – وما هي إلا سنوات قليلة إلا وأصيب فقيدنا وهو في الصف الثاني الإعدادي بارتفاع في درجة الحرارة وحمى، طالت معه قليلاً، فنتج عنها ضمور تدريجي في الأعضاء، حتى صار لا يقوى على الحركة تمامًا، اللهم إلا من حركة شديدة الضعف في يده اليسرى، أنتج من خلالها كل هذه الثقافة التي خلفها وراءه، شاهدة على التفوق وعلى الإبداع.
وهكذا أصبح الطالب محمد يحيي لا يتحرك إلا على الكرسي المتحرك بمساعدة والده رحمه الله، الذي كان كل شيء في حياته، فهو همزة الوصل بينه وبين العالم الخارجي.
ولأنه طالب نابه وعبقري فقد تفوق في كلية الآداب جامعة القاهرة، قسم الأدب الإنجليزي، وكان تقديره مميزًا وجاء الأول على دفعته، ورفضت الجامعة تعيينه معيدًا لظروفه الصحية، إلا أن سخر الله له من يدافع عن حقه ويقف معه بكل قوة وصلابة، إنه الدكتور رشاد رشدي – رحمه الله – الذي خاض معرفة عنيفة وطويلة حتى تم تعيين فقيدنا الكريم معيدًا في قسم اللغة الإنجليزية.
ولأنه كان يمتلك عقلاً ذهبيًا وإرادة فولاذية، فقد قرر أن يتعلم الفرنسية، فأتقنها من خلال سماعة للإذاعات الناطقة بالفرنسية على الترددات القصيرة، وكان يشتري أجهزة الاستقبال التي تتوفر فيها ترددات مثل هذه الإذاعات، ثم قرأ بعض الكتب في اللغة الفرنسية وفي الأدب الفرنسي. إلا إن نبوغه وإجادته الكاملة كانت للغة الألمانية التي أجادها مثلما يجيد اللغتين العربية والإنجليزية وكان يقرأ المراجع العلمانية بالألمانية، ومن أجل ذلك اشتركت في معهد "جوته" لكي أتمكن من استعارة الكتب وتوصيلها له، وكانت الكتب كلها عبارة عن مراجع في الأدب الألماني والتاريخ والفلسفة.
عرف فقيدنا الغالي بأنه مترجم لا يشق له غبار، وكثيرًا ما كانت تأتيه كتب من د. سمير سرحان (رئيس الهيئة العامة للكتاب) وكذلك من د. جابر عصفور (رئيس المجلس الأعلى للثقافة) لترجمتها، وكان لا يتأخر أبدًا في ذلك بحكم الزمالة، وأشهد الله أنه ما ساوم أحدًا على أجر أبدًا، وإنما كان يترك الأمر لله، فيأخذ المكافأة ويضعها في جيبه في صمت المؤمنين الطيبين، وفي حياء وتجرد العلماء العاملين.
ولم تكد الحياة تصفو له حتى تكدرت مرة أخرى أشد التكدير، حيث فقد أباه الذي كان يقضي له كل شيء، والذي كان يذهب به إلى الجامعة ويعود، ولذلك فقد حزن عليه حزنًا شديدًا مضاعفًا.
وهنا يجب أن نشير إلى مشكلة كانت تواجه الفقيد الكريم، وهي عدد أيام حضوره للجامعة وعدد محاضراته، وللحقيقة فقد لمست تعاونًا كاملاً من رؤساء القسم ومن كبار الموظفين في كلية الآداب من أجل ضغط الجدول وجعله في يوم واحد طويل من أجل التخفيف عن عالمنا الفذ لظروفه الصعبة.
ويرتبط بهذه المشكلة مشكلة أخرى وهي تدبير من يقوم بحمله وإجلاسه على الكرسي المتحرك والنزول به من المنزل وإنزاله في الجامعة، وكان الله سبحانه يسخر له من السائقين الطيبين من يتعهده ويقوم بهذه المهمة، وكان الواحد منهم يستمر في ذلك لسنوات طويلة، وكان عالمنا الجليل شديد السخاء معهم فيجزل لهم العطاء.
وحينما حان موعد الزواج، استشار فقيدنا الغالي صديقه الدكتور فهمي الشناوي – رحمه الله – أخصائي المسالك البولية والكاتب الإسلامي الشهير، الذي كان يرى أن الأفضل هو عدم الزواج. ولكن د. محمد يحيي، الذي كان يعيش في رعاية والدته – رحمها الله -، كان يخاف تمامًا ويتحسب لليوم الذي سترحل فيه أمه عن دنيانا، وكان شديد القلق تجاه هذا الأمر. وطلب فقيدنا من كثير من أحبائه مساعدته في هذا الأمر، ووفقني الله للعثور على طلبه، فتاة إسكندرانية جامعية متدينة، اطلعت على حالته بالتفصيل ورضيت أن تكون زوجة له، محتسبة الأمر عند الله.
لكن هذه الزيجة لم تدم أكثر من عام فتم الانفصال بالمعروف وفي أجواء من الخلق الرفيع والمروءة. وكان أن وفقه الله في التعرف على سيدة صعيدية محترمة، فتم الزواج، وأنجبت له يحيي وآية، وتوفى وهي في كنفه وأم لأولاده، وكانت فدائية عظيمة التضحية، وكافأها الله بابن وابنه نسخة كربونية في الشكل لأبيهما، وفي المضمون يحملان بذور النبوغ والعبقرية، يحيي في الصف الثالث الثانوي وآية في الصف الأول الثانوي.
لعل السطور السابقة كانت ضرورية للتأريخ لعالمنا الجليل، لأن ما هو معروف عنه إنما هو النادر من المعلومات، لدرجة أنني أعلم أنه لم يكن له صور فوتوغرافية، فأخذت الكاميرا الخاصة بي وصورته عدت صور، وشاء الله أن أفقدها جميعا، إلا الصورة المنشورة على هذه الصفحة.
أما إذا تحدثنا في الموضوع وهو الثقافة والفكر، فقد كان فقيدنا فارسًا لا يشق له غبار في الفكر الإسلامي، فانفتح على الثقافتين العربية والغربية، فقرأ الأعمال الكاملة لرموز ما يسمى بعصر التنوير في مصر، ونقد هذه الأعمال نقدًا عميقًا، ودرس المشروع العلماني العربي، ووجد أنه مشروع تغريبي إلحاقي غير أصيل، بل إن هدفه هو الانحراف عن الثقافة الأصيلة للأمة.
ودرس الفكر والأدب والفلسفة عند الغربيين وغاص فيها واطلع على مناهج البحث عندهم، وكل هذا أعطاه عمقا يلمحه كل من قرأ له أو جلس إليه، ومن هذا كله تأسست الثقافة الموسوعية عند د. محمد يحيي.
ولن أجد ما أدلل به على هذه الموسوعية إلا بأنني حينما كنت أعد تحقيقًا صحفيًا أستعين فيه برأي عدد من الخبراء والمختصين في تخصصات مختلفة ومن بينهم الفقيد الكريم، كنت أجد حرجًا وحيرة في كثير من الأحيان، فعند كتابة التحقيق وتوزيعه على المصادر من الخبراء كنت أختصر كلام كل خبير، فأجد أن كلام د. محمد يحيي أفضل من كلام كل خبير في مجال تخصصه، فهو يتحدث في الأدب أفضل من الأديب وفي الفلسفة أفضل من الفيلسوف وفي السياسة أفضل من أستاذ السياسة، وهذا بالتأكيد لا يتوافر لأي أحد، وإنما لفئة نادرة من المثقفين ثقافة موسوعية رفيعة.
ولم يصل د. محمد يحيي – رحمه الله – إلى ما وصل إليه ارتجالاً، وإنما بدأب وصبر وتحصيل وبحث، فهو لا يكتب أية كتابة، وإنما يكتب كتابة علمية موثقة ورصينة وأخلاقية. قبل ظهور قصة نصر حامد أبو زيد وما أثاره من لغط، وجدت فقيدنا الكريم يذكره أمامي ويقول تذكر هذا الاسم جيدا لأنه يبدو أنه سيثير أزمة في الأوساط الثقافية بعد فترة بسبب كتاباته، وكان قد قرأ له مقالاً في إحدى المجلات، فطلب مني أن أحضر له من معهد جوته كتابا في علم التأويل، كي يدرس كيف يتعامل الألمان مع نصوص الكتاب المقدس، على أساس أنه ربما طبق نصر أبو زيد نفس المقاييس الأوروبية في التعامل مع الكتاب المقدس على القرآن الكريم. وهنا احترمت صديقي وأكبرته، فهو يستعد ويبحث ويتسلح معرفيًا قبل أن يكتب مقالا نقديا لفكر نصر أبو زيد، ولا يكتب أية كتابة كما يفعل البعض.
وكان زملاء فقيدنا الغالي هم أكثر من يعرفون قيمته البحثية، ولذلك كان أكثر من يقدره ويكتب عنه هم زميلاه د. سمير سرحان ود. جابر عصفور، اللذان كتبا أن د. محمد يحيي هو أفضل مثقف لدى الإسلاميين وأن الإسلاميين لا يعرفون قيمته ولا ينزلونه منزلته.
وصدق خصمنا الكذوب، فمن عيوب الحركة الإسلامية أنها متعصبة فصائليًا، فكل فصيل يرعى أعضاءه ويدافع عنهم ويدفعهم إلى الأمام ويوفر لهم الفرص، أما الإسلامي العام والمستقل وغير المنتمي فصائليًا مثل فقيدنا الغالي وكثير غيره، فإن عليه أن يخوض وحده غمار المعركة الضروس، وتستفيد منه فقط الحركة الإسلامية في معاركها مع خصومها ثم تنساه، بينما هي ترعي وتهتم بمن هم دونه ثقافيًا وفكريًا بمراحل.
واستقلال الفقيد رحمه الله جعل فكره مرنًا عميقًا غير متعصب، فهو يدافع عن الفكرة الإسلامية العامة، ويدافع عن الإسلاميين كلهم على وجه العموم (دون المتعصبين منهم)، ولهذا فإن المتعصبين الإسلاميين لا يكادون يفهمون فكر د. محمد يحيي، لأنهم لا يفهمون إلا في الانغلاق والتعصب، بينما كان فكر د. محمد يحيي عميقًا منفتحًا متسامحًا إنسانيًا.
وإذا تأملنا في فكر الراحل الكريم نجده مثلاً يتوقف عند "الهوية" ليؤكد أن هويتنا مستقرة على أنها "عربية إسلامية" منذ قرون طويلة.. ولكن في العقود الأخيرة أعيد طرح قضية الهوية من جانب فصيل معين من فصائل الحركة الثقافية في مصر والعالم العربي.. وهو الفصيل الذي يميل إلى العلمانية والتغريب في فكره، هذا الفصيل يرفض الهوية العربية الإسلامية، ولكنه يحاول أن يلتف حول هذا الرفض بأن يطرح قضية الهوية على إطلاقها ليمهد السبيل إلى هوية أخرى قد تكون إفريقية كما يشاع، أو شرق أوسطية، أو أوروبية بها عناصر عربية مهجنة.. الخ. والسؤال عن الهوية لا يدل على تخلف ثقافي بقدر ما يدل على تحرك ثقافي من جانب فئة معينة تريد أن ترفض الهوية القائمة وتوجد هوية بديلة عنها، لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك مباشرة خوفا من رد شعبي.
وكان فقيدنا الكريم مميزًا في كشف زيف وتناقض التيارات العلمانية، ويدلل على ذلك بأن التعددية بمدلولاتها السياسية والثقافية والفكرية أصبحت كلمة سحرية يستخدمها الجميع على اختلاف واقعهم، لكننا نلاحظ أن جميع من يستخدمون هذا التعبير، يرفضون ابتداء قبول التيارات السياسية والفكرية التي تخالفهم، وهذا التناقض يزول لو كنا نريد أن نعمل التعددية بمفهومها الحقيقي والأولي وهي التعددية السياسية، والتعددية النابعة من حركة الفكر وحرية التعبير: أي الحقوق الإنسانية الأساسية. أيضا هذا الشعار الذي طرح أخيرا في مصر والعالم العربي وبحدة هو شعار يخفي وراءه تحركات سياسية معينة، فقد دخلت الدول العربية في علاقات مع أوروبا وأمريكا التي تقدم لها المعونات، وترتبط معها باتفاقيات.. ولكن لا يمكن لهذه الاتفاقيات والمعونات أن تستمر طالما كانت الدول العربية ذات طابع ديكتاتوري.. وبالتالي استجابة لهذا الظرف اضطرت الدول العربية إلى التحدث عن التعددية، وشاهدنا إدخال التعددية الحزبية في الدول العربية، ثم بدأ بعد ذلك الحديث عن التعددية الفكرية.
ولكن في الأساس لم يكن الحديث عن التعددية حديثاً مخلصًا ونابعا عن إيمان حقيقي من جانب النخب الفكرية والثقافية.. وإنما كانت التعددية مجرد حركة سياسية وقانونية وشكلية. أما من ناحية التعددية الفكرية فإن الذين يكثرون من الحديث عن التعددية لا يمارسونها ، فالتيار العلماني في العالم العربي لا يمارس التعددية، والتسامح لا داخله ولا خارجه، فالتيار العلماني لا يمارس الحوار والتعددية داخل فصائله، فاليسار يخاصم اليمين، واليمين يخاصم اليسار، والليبرالية ترفض الماركسية وبالعكس، والبراجماتية ترفض الجميع.. فضلا عن أن فصائل التيار العلماني ترفض الحوار والتعددية بالنسبة للتيارات الإسلامية ويصفونها بالظلامية والرجعية، ولا يقبل الإسلام في الدوائر العلمانية إلا إذا تمت علمنته وتجهيزه وتشكيله بحيث يصبح متغربا.
أيضا العلمانيون يسيطرون على معظم المنابر الفكرية والثقافية في العالم العربي، ولا يسمحون فيها بأية تعددية، ولا يسمحون حتى للصوت الإسلامي المعتدل أن يشاركهم فيها. وفي تقديري أن التعددية طرحت كلعبة ثقافية.. فالعلمانيون يدركون أن الساحة الثقافية والفكرية في العالم العربي هي عربية إسلامية.. وبالتالي ليس لهم مكان فيها، فيطرحون مفهوم التعددية لأنهم في موقف ضعف، ويقولون: لا يمكن لأي ساحة أن تكون مغلقة على تيار واحد ، ولا بد ون وجود تيارات أخرى. ولكن ما أن توجد هذه التيارات على الساحة إلا وتبدأ في ممارسة النفي والإقصاء والإبعاد لمن يخالفها.. فالتعددية عندنا ليست مطروحة كمبدأ أساسي وقيمة.. ولكن كشعار مرحلي وقتي، ثم يتم بعد ذلك ممارسة الإقصاء والرفض والإبعاد للآخر.. إن كل الفصائل العلمانية الآن تطالب بالتعددية واجتماع الفصائل الوطنية بشرط استبعاد الصوت الإسلامي حتى المعتدلين فيه رغم أن الكثير من هذه الفصائل تعترف بأن التيار الإسلامي تيار وطني.
ولأن د. محمد يحيي كان مفكرًا عميقًا يحمل الثقافة الأصيلة ويدافع عنها، بالإضافة إلى تعمقه في الفكر الغربي والثقافة الغربية والأدب الغربي، فقد كان يرى أن مسار دعوة حوار الأديان والحضارات مضيعة للوقت والمال .. وأن علينا أن نبحث في هذه الدعوة من جذورها ، فأولا إذا تحدثنا عن دعوة الحوار مجردة فلا يوجد أحد يرفض الحوار الذي هو مقترن في ذهننا بقيم التسامح، والفكر، وسعة الأفق، والهدوء والاتزان، والموضوعية.. الخ. وعندما نتحدث عن الحوار بين الأديان والحضارات فعلينا أن نسأل أنفسنا أسئلة معينة مثل: ما هو السياق الذي يجري فيه هذا الحوار، ومن هي الأطراف الداخلية في هذا الحوار؟ ومن هم ممثلوها؟ وما هي القنوات والأشكال التي سوف يتخذها هذا الحوار؟ وما هي أهدافه وغاياته وثمرته؟
وإذ فرض أننا نتحدث عن الحوار الإسلامي المسيحي مثلا فالطرف الأول لا يمثله المسلمون الشعبيون .. ولكن تمثله حكومات أو بعض شخصيات اختارتها الحكومات.. بينما الطرف المسيحي يمثله علماء أو رجال دين مسيحيون على درجة عالية من الثقافة ، ويتمتعون باستقلال في الشخصية والرأي، واستقلال أيضا في المادة ، لأن المؤسسة الكنسية في الغرب مستقلة عن تدخل الحكومات والسلطات.
وهكذا يدخل الطرف المسيحي كطرف حر ومستقل وفاعل ومثقف.. بينما الطرف الآخر يدخل وهو مفتقد هذه الأشياء. . بل مجرد موظف ليس على درجة من الكفاءة والعلم التي تؤهله للدخول في هذا الحوار.. وهو يدخل هذا الحوار لا يراعي الدين الإسلامي، ولا يراعي وجه الحقيقة.. ولكن يراعي فقط أن يحافظ على المواقف السياسية لمن عينوه في موقف المحاور. فهذا المناخ يحتوي على طرفين أحدهما مقيد غير حر ويطرح وجهة نظر سلطة سياسية عينته في موقعه.. بينما الطرف الآخر حر ومستقل ويريد أن يطرح كل القضايا. ويقال أيضا إن من ضمن أهداف الحوار التسامح، والعمل على إقرار القيم المشتركة، والتضامن في سبيل الإنسانية.. الخ.
وهنا نجد أننا أمام شيء مستحيل.. فهل فعلا توجد بيننا وبين الغرب قيم مشتركة؟‍‍‍! من أبسط قيم الحضارة الغربية القيم المادية.. فهل الإسلام فيه القيمة المادية؟ كما أن الحضارة الغربية بها قيمة الهيمنة والسيطرة والتسلط.. والإسلام ليس فيه ذلك.؟ ثم كيف يكون هناك عمل مشترك والكنائس المسيحية بدون استثناء داخلة في عمليات تبشير وفرض المسيحية في البلاد الإسلامية؟
وإذا انتقلنا للحوار بين الحضارات فهنا نجد أنفسنا في موقف عدم التكافؤ ما بين حضارة تتمتع بقوة مادية وأخرى ذات قوة مادية ضعيفة. والممثلون للحضارة الغربية منتخبون ديمقراطيا ، أي يعبرون عنها مائة في المائة.. ولكن هل نستطيع أن نقول عن أي محاور من الطرف الإسلامي إنه منتخب ويمثل الحضارة الإسلامية؟ بالعكس إن معظم مثقفينا يمثلون الحضارة الغربية أكثر مما يمثلون الحضارة الإسلامية.. ثم كيف يتم هذا الحوار في ظل عمليات سيطرة متتابعة منذ أربعة قرون فعرفنا الاستعمار العسكري، والاستعماري الاستيطاني، والاستعماري السياسي، والإمبريالية، والتبعية، ثم الاستعمار الاقتصادي، ثم الغزو الفكري، ثم التبعية الثقافية.. فنحن نعيش معهم منذ أربعة قرون في سلسلة متتالية من أنواع الاستعمار، والتبعية، والسيطرة، والتدخل، والأحادية، والإلحاق، والضم، فكيف يمكن أن يقوم الحوار في ظل هذا المناخ؟ فلا بد أن يكون هناك تكافؤ في الاستقلالية والانتماء للحضارة.
وعما إذا كان يعتقد أننا نعاني من أزمة في الثقافة والفكر؟ وإذا كانت هناك أزمة فما سببها ؟ وكيف يمكن الخروج منها؟ .. كان فقيدنا الكريم يرى أن هناك أزمة بالفعل .. وهي أزمة متعددة المستويات، فنحن يمكن أن نقول: إن هناك أزمة في القراءة، فالناس لم يعودوا يقرءون كما كانوا في الماضي، وإنما استولت على اهتماماتهم وأوقاتهم وسائل الإعلام الأخرى من إذاعة وتليفزيون وسينما.. الخ.. والقراءة في أزمة، وإلا لما كنا نقيم مهرجانات للقراءة كما أن هناك أزمة في الإبداع الفني في الكتابة.. والقصة والشعر.. الخ، فلم نعد نجد نفس الكم من الإنتاج الجيد، والإنتاج الحالي رديء ولم يعد كما كان في الماضي. فلو أخذنا مستويات معينة فسوف نجد أن هناك أزمة فعلا في الثقافة والفكر.. فهناك أزمة من حيث الإنتاج الجيد، والإبداع، والقراءة، وإقبال الناس على الثقافة، وإذا تدرجنا في المستويات وتكلمنا عن مضمون الثقافة والفكر سنجد أن هناك أزمة أكبر، لأن هذا المضمون أصبح هزيلاً.
فما هي القضايا الكبرى التي تشغلنا الآن؟ إنها نفس القضايا التي كانت تشغلنا من مائة عام.. قضية التنوير.. أو بالأصح التغريب والعلمنة لدرجة أنه أصبح لدينا الآن ما يمكن أن نسميه "سلفية علمانية" فالعلمانيون الآن عندما يطرحون لدينا أفكارهم لا يطرحونها معاصرة وإنما يعودون إلى الطهطاوي الذي هو أقدم من الإخوان المسلمين وحسن البنا، أو حتى العودة للقرن الثامن عشر لاستيراد أفكار عصر التنوير. فالواقع الآن تسيطر عليه السلفية العلمانية التي هي أشد شراسة من السلفية الإسلامية.
فالسلفية عيب تتصف به الحركة الثقافية عامة، والجميع لم ينج منها، وكما أن هناك "سلفية علمانية" فهناك "سلفية إسلامية" رديئة تركز على الشكل.. ولكن هناك سلفية مطلوبة بمعنى العودة إلى الأصول والجذور .. كما أن الثقافة والفكر فيهما أزمة الهوية التي تحدثنا عنها، فالتيار العلماني رافض لهوية الأمة العربية الإسلامية، ويريد أن يوجد له هوية مصطنعة ولا ينجح في ذلك.. وهكذا أصبحنا نعيش في حالة انعدام هوية.
هذا نموذج من فكر الفقيد الكريم د. محمد يحيي، نتذكره اليوم بعد وفاته، ونشعر بالفراغ الذي تركه، داعين الله أن يقبله في الصالحين، وأن ينفع بعلمه، وأن يبارك في ولديه .. يحيي وآية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.