لم تكن رابعة سوى ميدان محدود قابع فى قلب القاهرة لايعرفه سوى أبنائها وبعض المترددين عليها ، وفى توصيف إعلامى الفضائيات لم تكن سوى مجرد إشارة فما الذى حدث لتتحول رابعة إلى رمز إنسانى بالغ التأثير بعيداً عن فحواه السياسى ؟ الذى حدث أن قطاعاً كبيرا من الشعب المصرى وجد أن حلم الحرية الذى ناضل طويلاً لنيلها والظفر بها قد تم اغتياله أمام عينيه وبعد أن استنشق هذا الشعب نسائم الحرية لم يكن على استعداد للعودة مرة أخرى إلى عقود الظلم والقهر واستباحة الإنسان بكل ما فيه من آدمية وكرامة . رابعة كانت احتجاجاً جماعياً على ما حدث فى الثالث من يوليو 2013 واستشرافاً لما سيؤول إليه أمر البلاد ، كانوا بمثابة زرقاء اليمامة التى حذرت قومها طويلاً فاتهموا عينيها بالبوار ، قال المتجمعون فى رابعة إن ترك الأمر يمضى على ما هو عليه معناه ضياع الحريات ووأد حقوق الإنسان واغتيال الإرادة الشعبية فرد عليهم بأن مكاسب ثورة 25 يناير من المحال أن يتجاوزها أى نظام . ولكن أثبت العام المنصرم صدقهم فلا الحريات بقت ولا صوت المواطن المصرى أضحى له قيمة واعتبار ، أما الرأى " الآخر " فقد أصبح من الذكريات الجميلة التى نحن إليها بعد أن سيطر على البلاد الرأى الواحد والنظرة الواحدة . كانت رابعة حداُ فاصلاً بين الإنسانية واللاإنسانية فعلى مداخلها وفى قلبها ارتكبت مذابح مروعة لم تشهدها الدولة المصرية فى تاريخها المعاصر ، وفقد الآلاف أرواحهم فى غضون ساعات قليلة ، وفى أجوائها انتشرت رائحة اللحم البشرى المشوى بعد أن تم حرق مئات المصابين والجثث . كما صنعت رابعة شرخاً إنسانياً هائلاُ فى المجتمع المصرى تجاوز كل حدود المسموح به فى عالم الاختلاف السياسى ، هذا الشرخ الإنسانى لم يأت من فراغ ولكنه نتيجة طبيعية لما قام به إعلام الثورة المضادة من شيطنة أحد مكونات مجتمع المصرى وتشجيعه لكل أعمال العنف والبلطجة التى سبقت الثالث من يوليو واعتبارها عملاً ثورياً بامتياز ، فهلل الإعلام لحرق مقرات الإخوان وحزب الحرية والعدالة وكان التهليل يزداد كلما سقط قتيل هنا أو هناك بل كان يقدم كعمل بطولى ولم لا وقد استطاع هذا الإعلام تقديم الإخوان ومؤيديهم فى صورة " الخرفان " التى تستحق الذبح . لهذا داهمنا مشهد إنساني غاية فى السوء عندما تعمد قطاع من الشعب المصرى إظهار الفرحة والشماتة فيمن قتلوا فى رابعة وغيرها ، وما ثم إلا قليل ويذوق الشعب بأسره القتل والذبح فى الأكمنة الأمنية وأقسام الشرطة ولمجرد الاشتباه وفقط . لقد تخطت رابعة حدود المكان ولم تعد شأناً محليا وفقط بل تخطته لتصبح شأناً عالمياً بامتياز حتى أن مدير منظمة هيومان رايتس ووتش كينيثروث كتب قائلاً : مجزرةرابعةكانتوحشيةلدرجةانأسلوبدفنالرأسفيالرمالالذيتتبعهالحكومةالمصريةلنيجدي. كما أكد على أن قواتالشرطة،والجيشالمصري فتحتالناربالذخيرةالحيةبشكلمنهجيعلىحشودمنالمتظاهرينالمعارضين... رابعة ليست " كربلائية " جديدة كما يحلو للبعض أن يسخر منها ولكنها مظلمة عظيمة ألقت بظلالها الكثيفة على أى محاولات جادة للتسوية السياسية فيما بعد فى ظل إصرار السلطة الحالية على تجاهلها أو الادعاء بعدم وجود قتلى فى رابعة أو المضى قدماً عبر أذرعه الإعلامية فى شيطنة قطاع من المصريين وتعميق الشرخ المجتمعى الهائل . رابعة لم تكن مجرد حدث عارض بل صارت منهجاُ ثابتاً فى التعامل مع المعارضين لسلطة الثالث من يوليو رأيناه متزامناً فى ذات اليوم فى ميدان النهضة وعايشناه بعد ذلك فى مذبحة رمسيس الثانية ومذبحة مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية ومذبحة السادس من أكتوبر والمطرية وحلوان بالقاهرة وغير ذلك من المذابح التى مازالت تروعنا حتى اليوم الانتماء لرابعة تخطى حدود الحيز السياسى الضيق وبات انتماء للإنسانية فى حبها وعشقها للشهادة والتضحية من أجل نيل الحرية والكرامة والعدالة ، وعلى المستوى الشخصى فأشعر أن طاقة الخير بداخلى مازالت تستمد ديمومتها بالانتماء إلى هؤلاء الشهداء وغيرهم من شهداء الثورة المصرية منذ اندلاعها قبل أكثر من ثلاث سنوات حبا ً ونصرة . فسلام الله عليكم معاشر الشهداء .