ظل كارهو "المقاومة" في فلسطين ينشرون الإحباط من عمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ، ويتساءلون عن جدوى أي عملية فدائية تجري ويعاقب بسببها الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال ، حتى فرضت المقاومة نفسها علي طاولة المفاوضات بعد ربع قرن من احتلال الضفة وغزة ، ونجحت في استعادة السيطرة نسبيا بحكم ذاتي علي الضفة الغربية ثم غزة بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 . من كان يتصور أن إسرائيل التي كانت تصف عرفات ب "المخرب" و"الإرهابي" سوف تضع يدها في يده بعد اتفاقات أسلو ، ويصافحه رئيس وزراءها الراحل رابين ، لولا استمرار المقاومة ؟!. ومن كان يتصور أن حماس التي كانوا يسخرون من صواريخها البدائية التي بدأت في إطلاقها من غزة في شهر يونيو عام 2001 ، وكان أول صاروخ أنتجته وأطلقته قدرته 2 و3 كم فقط ، سوف تتمكن في غضون 13 عاما فقط من أن تضرب تل أبيب وحيفا بعمق 112 كم لولا استمرار المقاومة والثقة في النصر ؟! ، والأن في تل أبيب يتساءلون وهم مرعوبين في مراكز الأبحاث العسكرية الإسرائيلية : "ماذا ستفعل بنا آلة حماس العسكرية بعد ثلاث أو خمس سنوات أخري؟!" . كثيرون استنكروا ما أسموه "مغامرات حماس" في معارك 2009 و2012 وغيرها مع قوات الاحتلال ، وتساءلوا عن العائد من وراء ذلك سوي تدمير غزة وقتل المئات من أبناءها في كل عدوان صهيوني ، ولم يتحدثوا لاحقا عما جنته المقاومة من فك الحصار عن غزة ولو لبضع سنوات ، وفرض معادلة "التهدئة" المتبادلة مع الاحتلال ومنعه من العدوان علي غزة ، بعدما كان يستبيح غزة ويدخلها في الوقت الذي يحلو له ! والان يسأل نفس المتسائلين ومنهم مثبطين : ما هو هدف حماس من استمرار القتال بعد قتل 1600 فلسطيني وجرح 8 ألاف وهدم ألاف المنازل والمساجد والمستشفيات والمدارس والمباني الحكومية ، وخاصة أن حلفاءها السابقين (إيران وسوريا وحزب الله والإخوان والخليج ) تخلوا عنها لأسباب مختلفة ؟ ويقولون : لماذا لم تقبل بالمبادرة المصرية وتنقذ دماء أهل غزة بدلا من مسلسل القتل اليومي ؟. وما لم يفطن له هؤلاء السائلون هو أن كل مرحلة عدوانية صهيونية وكل مواجهة للمقاومة معهم ، تشهد ارتفاعا في سقف المطالب الفلسطينية وترسيخ لحالة جديدة من التوازن في الصراع ، وان المقاومة لها هدف استراتيجي أبعد مدي يرفع سقف مستوياته في كل مواجهة تحدث ، وهي رؤية أبعد في النظر وأشمل . في حرب 2009 كان الهدف هو فح الحصار ، وفي حرب 2012 كان الهدف هو جلب مكاسب أكبر تتمثل في إطلاق سراح أسري وتحسين حياة ومعيشة الفلسطينيين ، أما في حرب 2014 الحالية ، ورغم مشاركة دول عربية لإسرائيل حالة العداء لحماس ، فالهدف أكبر بحجم ترسانة حماس الصاروخية وتفوق وحداتها القتالية باعتراف العدو نفسه . الهدف هذه المرة ذا شقين : (الأول) عسكري يتلخص في محاولة إحداث اختراق في التوازن العسكري مع العدو الإسرائيلي وخلق ميزان رعب بالصواريخ بحيث يرتدع الصهاينة عن العدوان علي غزة مستقبلا لتوقعهم أن ترد غزة التي باتت تملك السلاح الذي يحيل حياتهم إلي جحيم ووصل الي ثلثي مدن إسرائيل باعترافهم ، ولا تتكرر بالتالي العربدة العسكرية الصهيونية في غزة . أما الهدف الأخر فهو هدف (سياسي) أشمل يتمثل في الحفاظ علي ما تبقي من قوة التغيير في العالم العربي أو ما أصطلح عليه باسم (الربيع العربي) ، ومواجهة الانقلابيين العرب الذين وضعوا يدهم في يد العدو الإسرائيلي الاستراتيجي للأمة العربية والإسلامية ، سواء من كانوا في مصر أو غيرها ، وتحدثت إسرائيل نفسها عن التحالف معهم وفضحت تأمرهم علي غزة . الهدف هو كشف "الصهاينة العرب" الذين جعلوا الربيع العربي في صالح العدو الصهيوني ، والحفاظ علي جبهة المقاومة الفلسطينية كمشعل يضئ الطريق لباقي جبهات المقاومة والتغيير في العالم العربي ، وتصحيح زاوية الأمن القومي العربي التي انحرفت بحديث تعود هي مواجهة العدو الصهيوني الخارجي لا مواجهة القوي الإسلامية الداخلية . بهذا المعني تصبح المقاومة الفلسطينية هي الأمل الأخير للربيع العربي ، ولهذا يتآمر عليها ويتحالف ضدها - حتى مع إسرائيل - أصحاب المصلحة في قمع التيارات الإسلامية ، التي كانت ولا تزال هي وقود هذه الثورات الشعبية العربية ، ويسعون لضرب قوتها وإنهاء وجودها لأنها خطر عليهم وتكشف تحالفهم مع عدو الأمة العربية والإسلامية الاستراتيجي. أنظر إلي ما يكشفه قادة إسرائيل يوميا عن لقاءات مع مسئولين عرب وشكوتهم من سرية اللقاءات وضيقهم بهذه السرية ومطالبتهم بالعلنية بعدما أصبحت مصالح بعض الأنظمة العربية متوافقة مع مصالح (إسرائيل) ضد المقاومة باعتبار أنها "فصيل" خارجي للحركات الإسلامية التي قمعوها في داخل دولهم . وأنظر إلي ما تنشره صحف العالم من شرقها إلي غربها حول (التحالف العربي – الإسرائيلي) ضد التيارات الإسلامية .. نيويورك تايمز تقول أن القادة العرب لزموا الصمت علي مجازر غزة لأنهم يعتبرون حماس أسوأ من إسرائيل ، واندبندانت وجارديان وايكونوميست ، وحتي مراكز الأبحاث الإسرائيلية والأمريكية تقول أن الربيع العربي أصبح في صالح إسرائيل بعدما شنت الثورات المضادة الحرب ضد الإسلاميين في الداخل (الإخوان) وفي الخارج (حماس) . وتخيل ماذا سيحدث لو انهارت المقاومة في غزة ، وتحول الإقليم العربي الوحيد المقاوم لإسرائيل والذي خرجت منه ولأول مرة صواريخ تضرب مدن إسرائيلية لم تصلها جيوش عربية من قبل ، إلي جزء من الضفة الغربية يعتقل مقاوميه ويفرض التنسيق الأمني عليهم مع المخابرات الإسرائيلية ؟ هذا السبب ، وأن المقاومة الفلسطينية هي أمل الربيع العربي الأخير ، هو ما جعل هذا التحالف العجيب يحدث بين أنظمة عربية تخشي ثورات شعوبها ، وعدو إسرائيلي ، وحليف أمريكي يخشى خطر الصحوة الإسلامية علي ضياع مصالحه وامتيازاته في المنطقة وانهيار إمبراطوريته العجوز .