ما أن أعْلِن عن إصابة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، هو وأركان نظامه يوم الجمعة 3 يونيو، ثم الإعلان عن نقله إلى السعودية لتلقِّي العلاج، أطلق شباب الثورة في ساحات الحرية والتغيير زغاريد الاحتفال برحيل صالح ونظامه، بُعيْد وصوله إلى الرياض. غير أن تلك الزغاريد ستضع حداً لبحَّة أصواتهم التي لم تصمت على مدار أربعة أشهر وهم يطالبون بسقوط النظام، خاصة بعد أن تناقلت وسائل الإعلام تصريحات مسؤولين في الحزب الحاكم ولمصادر رسمية سعودية، تفيد بعودة مُرتقبة لصالح. وإلى حين إعداد هذا التقرير، لا زال الغموض يُحيط بسفَر الرئيس علي عبدالله صالح والمصابين من كِبار مسؤولي البلاد للعلاج في الرياض وعودتهم من عدمها، كغموض الهجوم ذاته الذي تعرّضوا له، حيث ستترتب عليه نتائج مهمَّة وخطيرة قد تعكِّر أجواء الأمل بالتغيير الذي رفع لواءه شباب الثورة. فبُعيْد الحادثة وجَّه هو نفسه أصابع الاتِّهام إلى أنجال الشيخ الأحمر، ثم مصدر مسؤول في رئاسة الجمهورية بعده اتهم واشنطن بأنها تقف وراء الهجوم، ولاحقاً، يتهم مصدر في الجيش اليمني القاعدة، فيما يذهب الخبراء والمحلِّلون إلى أن الهجوم الذي استهدف مقدِّمة الجامع، لا يمكن أن يكون إلا من داخل القصر الرئاسي وأنه محصِّلة صِراع طويل بين أطراف الأسْرة الحاكمة، كما تحوم الشكوك حوْل أطراف أخرى، كالقائد العسكري علي محسن الأحمر، الذي أعلن تأييده للثورة، والحوثيون. مَن المستفيد من العملية؟ وعلى الرغم من ضعف الأدلَّة التي يستحضرها المراقبون والمحللون في ترجيح هذا الاتهام أو ذاك، فإنهم يستنِدون إلى مجموعة من القرائن التي تركِّز على المستفيد من هذه العملية، وهي في كل الأحوال لا ترقى إلى مستوى الدليل الذي يجلي حقائق الأمور، خاصة أن الهجوم مُحاط بغموض رسمي غيْر مبرّر وتغيب حوله تفاصيل واضحة، حتى لجهة المصير الفِعلي للمصابين من كبار رجال الدولة التي تتضارب المعلومات بشأن أوضاعهم الصحية وتتأرجح بين الخطير والوفاة والطفيفة. من الواضح أن هذه العملية ألهبَت كل محفِّزات الصراع، السياسية والاجتماعية والجهوية العسكرية. فالذي وجَّه ضربته، لم يكن هدفه رأس النظام السياسي وحده ممثلاً بالرئيس صالح، بل النظام الاجتماعي القبَلي والعسكري برمته. فإلى جانبه (الرئيس)، سقط أهَم أركان دولته الذين اعتادوا على الظهور المتكرّر معه خلال معركته المهرجانية التي اعتاد عليها لمواجهة مطالب المعتصمين برحيله، والذين سقطوا معه في الهجوم، هُم ممَّن يوحون دائماً بتمثل التنوّع الجهوي في السلطة وبحضور الثقل القبَلي في الدولة. فإلى جانب أنهم من الشخصيات السياسية الوازنة لهم وزن اجتماعي كبير وهُم: يحيى الراعي، رئيس مجلس النواب وعبد العزيز عبد الغني، رئيس مجلس الشورى والدكتور علي محمد مجور، رئيس مجلس الوزراء والدكتور رشاد العليمي، نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الدفاع والأمن ووزير الإدارة المحلية والأمين العام المساعد للحزب الحاكم صادق أمين ابو رأس ونعمان دويد، محافظ مدينة صنعاء وياسر العواضي، عضو المكتب السياسي للحزب الحاكم للمؤتمر الشعبي العام، وجميعهم ينتمون إلى مناطق وقبائل مؤثِّرة ومعروفة بمناوأتها لقبيلة حاشد، التي ينتمي إليها الشيخ الأحمر، الذي أصبح الخصْم اللَّدود للرئيس علي عبدالله صالح في الفترة الأخيرة، ويُعدُّون وِفقاً للتصنيف الاجتماعي الشائع في اليمن، من الرموز القبَلية النافذين واعتمدوا بدرجة رئيسية على ثِقلهم القبلي والجهوي لشغل مواقعهم السياسية. فهم يتميَّزون باتِّساع قاعدة أتباعهم الاجتماعية داخل القبيلة التي ينتمون إليها. وانتماءهم إلى مناطق يُهيمن فيها سلطان القبيلة وأعرافها. والأمر الثاني، أنهم استطاعوا مع مرور الوقت، توفير منافع سياسية واقتصادية لأنصارهم وأتباعهم مستفيدين من نظام المحسوبية والفساد وغياب المسألة والمحاسبة في الإدارة الحكومية، ما خلق لهم قاعدة واسعة يستنِدون إليها، وهي قاعدة تُدين بالولاء والإخلاص لهم أكثر من ولائهم للدولة الوطنية الغائبة أصلاً، وأولئك الأنصار والأتباع، خاصة القبليين منهم، هُم مستعدّون للدفاع عن مصالح رموزهم، ومن السهل استثارة العصبية القبلية لديهم للانخراط في أي مشروع يؤكِّدون فيه على تماسك وقوة القبيلة، كما هو الأمر تُجاه القضايا المتعلِّقة بالعدوان والثأر، الذي يقلِّل من هيبتها أو ينال من سُمعتها. ففي مثل هذه الحالات، سرعان ما تنتصب تلك العصبية مستنهضة القبيلة كلها مجتمعة، في حالة من تأكيد تماسك بنيانها وشوكتها، بما هي الملاذ الأخير لأفرادها وحمايتهم في بلد ما زالت الصِّراعات بين هذه المكوِّنات الاجتماعية، هي التي تحكُم التعايُش والتساكن في كثير من المناطق القبَيلة المتجاورة، ولذا، فإن هذه الحادثة بتعدّد المستهدفين منها أو بعودة صالح للحياة السياسية، محفوفة بالمخاطر، لأنها ستأتي مدفوعة برَغبة انتِقامية من الضربة التي وجِّهت للنظام بكل هيئاته وحزبه ومؤسساته . وضعية ما بعد الحادث سياسياً، أسفرت النتائج المترتِّبة على وضعية ما بعد حادثة "جامع الرئاسة" بما خلَّفته من فراغ دستوري وسياسي لأهم مؤسسات الدولة، عن تعطيل كل المؤسسات وفتحت شهيّة جميع اللاّعبين السياسيين المتطلّعين لجني ثمار الثورة الشبابية، ربما قبل نضوجها. إذ بدا واضحاً الحديث عن ترتيبات ما بعد المرحلة، دون أن تتضح بعدُ العلامات والمؤشِّرات الدالَّة على المغادرة النهائية لعلي عبد الله صالح ونظامه من السلطة. ويرى الكثير من شباب الثورة أن أولئك اللاّعبين والطامحين الجُدد، الذين يشكِّلون خليطاً من الأحزاب السياسية المعارضة ومن زعامات قبلية وجهوية وقادة جيش، يحاولون القفز على نِضالهم الطويل عبر البحث عن حلول وتسويات خارج منطِق الشرعية الثورية، بدأت ملامحها من وجهة نظرهم، في الإحتكام إلى مقتضيات الدستور، لاسيما المادة المتعلقة بنقل السلطة إلى نائب الرئيس، وهو أمر يبدو لهم مناقِضا إلى حد كبير للأقوال التي ظلّوا يردِّدونها حول سقوط الشرعية الدستورية بالشرعية الثورية. لذلك، فإن عدداً من الإئتلافات الشبابية في ساحات الثورة والتغيير، لا تختلف على أن يتولى نائب الرئيس عبد ربه منصور بشخصه، وإنما في المُسوّغ الذي يتولى بموجبه السلطات الإنتقالية، والتي هي من وجهة نظرهم مقتضيات الثورة لا مقتضيات الدستور، الذي انتهى بالنسبة لهم بخروجهم إلى الشارع مطالبين بسقوط النظام. من الناحية العسكرية، تحمل هذه الحادثة مخاطِر كبيرة، خاصة إذا ما استمر صالح على إصراره في التمسك بالسلطة والعودة إليها واكتفت السعودية فقط بدور الطبيب الصحي، وليس السياسي الذي بدا محَطّ تساؤل كبير بعد رفْض التوقيع على المبادرة الخليجية، مع أنها الطرف المؤثر في تقرير مصير تلك المبادرة. مخاوف.. فالهجوم - بلا شك - سيقدم المبرّرات لأنصار الحسم العسكري في إشعال الجبهة العسكرية وغلق الطرق أمام الثورة الشبابية وبطريقة قد تعيد الرِّهان على حرف الثورة عن مسارها وتحويلها إلى صراع ثورات مستثمرة. ويخشى العديد من المراقبين أن هذه الأطراف باستغلال الغياب القهري للرئيس ولرئيسيْ مجلسيْ النواب والوزراء، ويقدمون على مقامرة عسكرية بحُكم الأمر الواقع، الذي تغيب فيه السلطة المعنية باتخاذ قرار استخدام القوة وتحمل تبِعات استخدامها، وهو ما بدأ يُمارَس بشكل فِعلي في مدينة تعِز، عقب هجوم الجمعة مباشرة باستخدام مُفرط وبشع للقوة من قِبل قادة الجيش والشرطة، غير مُدركين أن من يصدرون الأوامر، وإن كانوا في وضع صحي لا يسمح لهم بذلك، لا يعفيهم من المساءلة عن الأعمال الإجرامية التي يرتكبونها. كما يطرح هذا الوضع أكثر من علامة استفهام حول هوية المسؤول عن تلك الأعمال العسكرية التي تنفَّذ في هذه المدينة وأدّت إلى قتل الناس وتدمير الممتلكات العامة والخاصة بشكل يؤكِّد استمرار الخِيار العسكري، حتى في ظل شلل المؤسسات السياسية والدستورية. الكرة في المرمى الخليجي والدولي النتيجة التي يخرج بها المتابع لهذه التطورات المتسارعة في البلاد وما تحمله من مخاطر تصاعد الصراع، هي أن الكُرة باتت بعد كل هذه التطوّرات في المرمى السعودي والخليجي خاصة، والدولي على وجه العموم. وطبقا لرأي العديد من المراقبين والمحللين، يتعيَّن على هذه الأطراف مجتمعة- وكما بدا من تدخُّلهم منذ بداية الأحداث التي تشهدها اليمن والتأثير على مساراتها - أن يكشِفوا عن حقيقة نواياهم إزاء الوِجهة التي يريدون تقريرها للمصير اليمَني منذ انطلاق المبادرة، والتي لم تتحدّد معالمها بدقة منذ اندلاع ثورة التغيير الشبابية قبل أربعة أشهر. المصدر: سويس انفو