كنت راغبا عن الكتابة عن شيخي وأستاذي الاقتصادي العالم الرباني الأستاذ الدكتور عبد الحميد الغزالي رحمه الله ، ولم يكن المانع من عدم الكتابة عنه قلة معرفتي به، أو أنه لا يستحق الكتابة حاشا لله ولكني أعجب أشد العجب من إهمال أمتنا لعلمائنا في حياتهم، وعدم الرغبة في الإفادة منهم، والتكاسل في عدم إنشاء المؤسسات التي تمكن الشباب من وراثة علم الشيوخ، حتى إذا توفاهم الله تعالى قمنا نبكي عليهم ، ونتحسر على فقدانهم، والتغني بخسارة الأمة لرحيلهم عنا، والسؤال الذي نردده دائما ماذا أفادنا منهم في حياتهم حتى نبكي عليهم بعد وفاتهم !! أقول كنت راغبا عن الكتابة عنه وعن غيره من العلماء الذين أفضوا إلى الله تعالى حتى شجعني أحد أصدقائي من الباحثين الجادين ، فقلت في نفسي إن كنا قد قصرنا في حقه حيا ، فلا يصح أن نقصر في حقه ميتا!! علماؤنا قليلا ما ينجبون ما زالت الأمة تفقد العالم بعد العالم ، وكلما مات عالم عز علينا من يخلفه، فبالرغم من كثرة الوسائل التي تعين على البحث، وتوافر الكم الهائل من المعلومات لكننا نجد الندرة في العلماء الأثبات العالمين العاملين بعلمهم ، وكأني بنبؤة النبي صلى الله عليه وسلم تتحقق الآن فيما رواه البخاري ومسلم رضي الله عنهما بسندهما عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). لو أتيحت الفرصة أمام عالمنا الفذ وغيره من علمائنا العدول لخلف كل واحد منهم مائة عالم على الأقل ، وفي هذه الحالة ما حزنا عليه، وكثيرا ما يردد العوام: (أن من أنجب لم يمت ) لكن علماءنا قليلا ما ينجبون، ولذلك أسباب لا يتسع المقام لذكرها من أهمها غياب المؤسسات التي تقوم على توريث العلم ونقل الخبرات من جيل العلماء القدامى إلى الشباب الذين يكونون خلفا لهم في حمل المسئولية وتحمل التبعة ونقل هذه الخبرات والبناء عليها وتطويرها وتنميتها حتى يورثوها للأجيال التي تليهم . روى الترمذي بسنده عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال: ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما جئت لحاجة؟ قال: لا. قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا. قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر" أما عالمنا الجليل فالحديث عنه يطول ، وهو حديث ذو شجون، وسأذكر له موقفين من عشرات الموافق التي تبرهن لا على كثرة علمه فحسب ولكنه عن أدبه وعفة لسانه وتواضعه الجم كذلك . الموقف الأول : كانت مناقشة لرسالة دكتوراة في كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر ، أصر صاحبها لأنه من الباحثين النجباء أن يناقشه الدكتور الغزالي رحمه الله وكان قد ناقشه في الماجستير وأفاد منه كثيرا ، فأصر أن يكرر التجربة مع الدكتوراة على الرغم من اعتذار أستاذنا رحمه الله لكثرة أسفاره وأشغاله فقبل الباحث أن يتأخرة عدة أشهر من أجل أن يفيد من علمه . وقد كنت حريصا على حضور المناقشة للتعلم من شيخنا وأستاذنا الجليل ومن أجل أن أفهم إصرار الباحث على مناقشته على الرغم من أن مشرفه اقترح عليه أستاذا آخر ومعظمنا في هذه الفترة يكون حريصا على الانتهاء على أية حال، فما ذهبت أيقنت أن الباحث كان محقا، فلقد كانت وجبة دسمة من العلم النافع والخلق الرفيع والأدب الجم. كانت الملاحظات كلها منهجية ، وهامة ومفيدة ، ولكن الجديد أنه عرضها عرضا لا يخجل الباحث ولا يحرجه أمام زملائه وضيوفه، ولكنها تصل قوية مدوية ، في حجة مبهرة ومنطق مقنع ، يبدأها بالثناء على الباحث، ويلتمس لع العذر ثم يقدم نصيحته فتستقر في القلوب والعقول قبل أن تسقر في الأذان . كانت طريقة جديدة وطريفة لم نتعود عليه في كثير من المتاقشات التي يظهر فيها التعالي والتفاخر بالعلم والمعرفة ، وبعض الحالات تسوية الحسابات بين المناقش والمشرف على حساب الطالب . الموقف الثاني : كان من خلال إشرافه على رسالتي للدكتوراة فقد سعدت وأفدت منه منه خلال ثلاث سنوات، طلب مني فيها إعداة كتابة الرسالة ثلاث مرات ، وكنت أقوم بذلك عن سعادة واقتناع ولو طلب الزيادة لفعلت ، ثم بعد الانتهاء قال لي كلاما معناه أنه كان من الممكن الاكتفاء بالمرة الأولى لكن الله يقول ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ....﴾ [التغابن: 16] وكنت أريد أن أتأكد أنك بذلت كل ما في وسعك واستطاعتك . كان مما علمني شيخي وهو كثير أن البحث لا بد أن يكون كالجملة الواحدة ، فيكون مترابطا متماسكا، لا تظهر فيه (الأنا) يقصد أنا العجب ، بل نترك الناس يتحدثون عن شخصية الباحث دون أن يتحدث هو عن نفسه . سنفتقد عالمنا كثيرا الفترة القادمة بعد أن بدأنا نستنشق عبير الحرية، ونتذوق معنى الكرامة ، فلقد غيب شيخنا كثيرا وراء القضبان ومنع من أن يفيد الناس من علمه في داخل مصر ، ومنع عشرات المرات من السفر فمنع الناس من علمه في الخارج . وقديما قال الشاعر: سيذكرني قومي إذا جد جدهم **** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ونحن نذكر شيخنا في كل وقت بكل خير، وندعو له بكل خيرا ، ونسأل الله أن يجعل ما تركه من علم صدقة جارية رحم الله شيخنا رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه عنا خير الجزاء ، وأخلف علينا وعلى الأمة الإسلامية إنه ولي ذلك والقادر عليه . الأستاذ المساعد بجامعة الإنسانية الإسلامية- ماليزيا وكيل الجامعة للدرسات العليا والبحث العلمي