«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علاء الأسواني نزل بحر التاريخ وهو لا يجيد السباحة
نشر في المصريون يوم 06 - 06 - 2011

عاتبني أحد القراء قائلا "ما دمت تكتب عن أهمية الحوار الفكري الهادئ بين الإسلاميين والعلمانيين وتضرب أمثلة عن تجارب ناجحة وأخرى فاشلة من تاريخنا القديم والحديث، فلماذا لا تضرب مثالا من واقعنا الحالي ؟ ها هو علاء الأسواني يكتب عن التاريخ الإسلامي ويقدم صورة شديدة السواد لهذا التاريخ، لماذا لا تناقشه ؟؟". رأيت عتاب القارئ منطقيا فلم أتردد وقلت له "لبيك".
قرأت المقال الذي أشار إليه القارئ فازدادت قناعتي بضرورة مناقشته. كتب الأستاذ الأديب الدكتور علاء الأسواني مقالا بعنوان (هل نحارب طواحين الهواء..؟!) ونشره في جريدة المصري اليوم في 31 مايو 2011 وملخص مقاله ثلاثة أمور:
1. الإسلام قدم فعلاً حضارة عظيمة للعالم، فعلى مدى قرون نبغ المسلمون وتفوقوا في المجالات الإنسانية كلها بدءا من الفن والفلسفة وحتى الكيمياء والجبر والهندسة.
2. تاريخ الحكم الإسلامي على امتداد 1400 سنة لا وجود فيه لمبادئ أو مُثُل نبيلة، وإنما هو صراع دموي على السلطة يستباح فيه كل شىء، اللهم إلا في فترة زمنية محدودة جدا مدتها 31 سنة هي زمن الخلافة الراشدة وحتى هذه لم تخل من مظالم.
3. الذين ينادون أو يحلمون بعودة الخلافة الإسلامية نوعان من الناس: بعض المسلمين الذين لم يقرأوا التاريخ الإسلامي من أساسه، أو أنهم قرأوه وتهربوا من رؤية الحقيقة، لأن عواطفهم الدينية قد غلبت عليهم فأصبحوا بالإضافة إلى تقديس الإسلام يقدسون التاريخ الإسلامي نفسه، ويحاولون إعادة تخيله بما ليس فيه. أما الفريق الآخر من المنادين بالخلافة فهم أعضاء جماعات الإسلام السياسي الذين يلعبون على عواطف البسطاء الدينية من أجل أن يصلوا إلى السلطة بأي طريقة.
وبالإضافة لذلك فقد لطخ الأستاذ الأسواني قلمه بالخوض في اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هما عثمان ومعاوية رضي الله عنهما، ولكني أؤخر الكلام عن هذا وأبدأ أولا بمناقشة المقال في نقاط محدودة معدودة حتى لا يتشعب الكلام:
1. أول ملاحظة تعجبت منها هي إلقاء الأحكام المطلقة بصورة ساذجة على حقبة تاريخية مدتها 1400 سنة، يختزلها الأستاذ الأسواني ببساطة شديدة ويصفها بأن (نظام الحكم فيها لم يكن متفقا قط مع مبادئ الدين)، 1400 سنة من الحكم الإسلامي خالفت فيها أنظمة الحكم مبادئ الدين التي يصفها الأسواني بأنها (مبادئ الإسلام الحقيقية: الحرية والعدل والمساواة). هل يتصور أحد 1400 سنة من حكم بلا حرية ولا عدل ولا مساواة ؟!. إننا نطالب حتى في عصور الانحطاط والاستبداد والقهر الحديثة أن ندقق في أحكامنا، فمثلا نقول عن فترة حكم عبد الناصر إنها لم تكن شرا كلها ولا خيرا كلها، وكذا عهد السادات وحتى عهد مبارك الذي دمر البلاد ربما لا يخلو عهده من حسنات، فكيف بألف وأربعمائة عام من الحكم الإسلامي بجرة قلم يصمها الأسواني بأنها لم تتفق أبدا مع مبادئ دين الإسلام.
2. أول أمرين ذكرهما الأسواني ضدان متناقضان ولا يمكن أن يجتمعا. وكنا نتصور في الأستاذ الأسواني الأديب الذي يعرف النفس البشرية وحركة المجتمعات أنه لا يمكن لمجتمعات سادتها الصراعات الدموية التي تستبيح كل شيء وتخلو من الحرية والعدل والمساواة، لا يمكن أن تنتج حضارة عظيمة في العلوم والفنون والآداب. العكس هو الصحيح أن إنتاج تلك الحضارة العظيمة الراقية التي افتخر بها الأسواني عندما كان يدرس الأدب في إسبانيا لا يمكن أن تخرج من بلاد قد أطبق عليها الظلم والقهر والاستبداد وتستباح فيها كل الحرمات، هذا هو المستحيل بعينه. وليدلنا الأسواني على أمة من الأمم حكمت بدون الحرية والعدل والمساواة وظل حكمها مستمرا قرونا متطاولة، وأكثر من ذلك أنتجت حضارة عظيمة غيرت وجه البشرية. إن هذا ليس من طبيعة الأشياء وضد حركة التاريخ وقبل ذلك ضد سنن الله في خلقه (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
3. ولو تفكر الأستاذ الأسواني في عبارة أستاذه الإسباني عندما قال له (يجب أن تفخروا بما أنجزه أجدادكم من حضارة في الأندلس..) وتذكر أن سبعة قرون من الحكم الإسلامي في إسبانيا أبقت على الدين المسيحي فيها وعلى من تمسكوا به، بينما قضى الأوروبيون على كل مسلم في تلك البلاد خلال سنوات قليلة من استردادهم لحكم الأندلس ولم يبقوا على مسلم واحد في أشهر محاكم تفتيش عرفتها البشرية. الحكم الإسلامي هو نفسه الذي عامل بالسماحة وبالحرية والعدل والمساواة نصارى الأندلس فاحتفظوا بدينهم لسبعة قرون.
4. وهنا لا يمكن بطبيعة الحال أن نستعرض كل التاريخ الإسلامي، ولكن سأناقشه فقط في الفترة التي ضرب منها الأمثلة البشعة وهي فترة الحكم الأموي لتكون دليلا أقوى على غيرها من أزمنة الحكم الإسلامي.
5. بداية فإن الأمثلة التي ذكرها الأستاذ الأسواني عن الدولة الأموية أكثرها صحيح وبشع ولا يجوز لمسلم عاقل أن يدافع عنها، ولكنها جزء مقتطع من الصورة الكاملة للحكم الأموي، واقتطاعها على هذا النحو يعطي صورة مغلوطة تماما ويكون أشبه بفعل الشيعة عندما يأخذون هذه الأمثلة الصارخة ويعممونها على أهل السنة. وفي الحقيقة فإن التصور الذي يعطيه الأستاذ الأسواني لانقلاب الحال مع بداية حكم معاوية رضي الله عنه تصور عجيب ومضحك ولا يتفق أبدا مع الطبيعة البشرية. إنه يصور حال الأمة الإسلامية وقد أشرقت عليها أنوار الحرية والعدل والمساواة ثم فجأة انطفأت هذه الأنوار وأغرقت الأمة في ظلم وظلمات لمدة 1400 سنة، وهو تصور لا يستقيم أبدا. إنه يتصور أن سنة (41ه) التي قامت فيها الدولة الأموية، وكأنها السنة التي انتهى فيها جيل الصحابة؛ الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو انقرض التابعون؛ الذين تتلمذوا على يد التلامذة الأول للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. إن بعض الصحابة قد عاشوا إلى ما بعد العقد التاسع (90 ه)، أي بعد عام الجماعة بأكثر من نصف قرن كامل. أما التابعون فقد عاش بعضهم إلى ما بعد سقوط الدولة الأموية سنة (132ه). إن ما حدث بالضبط هو أن أسلوب انتقال الحكم قد تغير من شورى مطلقة إلى استبداد بالرأي أو إلى شورى مقيدة؛... أما نهر الحضارة الإسلامية فقد ظل يشق مجراه ... وظلت الأمة هي الأمة والمبادئ هي المبادئ. ولذلك نشر الأمويون الإسلام في أقطار الأرض ، في المغرب الأقصى والأوسط والأدنى وطرابلس وبرقة وإسبانيا والصين والهند وبلاد آسيا الوسطى وأفغانستان وغيرها، وفي عهدهم وقعت عملية التعريب ، وتم تنظيم الدواوين ، وسك العملة، وبدأت العلوم العربية والإسلامية تكتمل صورها وتنحت معارف جديدة للبشرية.
6. استشهد هنا بمؤرخ غربي من كبار الدارسين للتاريخ الإنساني كله لعل شهادته تكون أكثر قبولا لدى المدرسة العلمانية التي تتعسف مع تاريخنا. يقول المؤرخ الأمريكي الأشهر ويل ديورانت (1885-1981م) في موسوعته الشهيرة (قصة الحضارة)، في المجلد الخامس:
(يجب علينا ألا نظلم معاوية. لقد استحوذ على السلطة في بادئ الأمر حين عينه الخليفة الفاضل النزيه "عمر بن الخطاب" والياً على الشام، ثم بتزعمه الثورة التي أوقد نارها مقتل عثمان، ثم بما دبره من الدسائس البارعة التي أغنته عن الالتجاء إلى القوة إلا في ظروف جد نادرة، ومن أقواله في هذا المعنى "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت" قيل: وكيف يا أمير المؤمنين؟ قال: "إذا مدوها خليتها وإن خلوها مددته". ولقد كان طريقه إلى السلطة أقل تخضباً بالدماء من طرق معظم من أسسوا أسراً حاكمة جديدة. وكان يجلس للناس خمس مرات في اليوم، وقد استؤنفت الفتوحات الإسلامية في عهده بعد توقف، وكان يسمع المدح في منافسه في مجلسه؛ بل ويسمع بفضله عليه ولا يعاقب على ذلك (وهي صورة من أعلى مظاهر حرية الرأي والتعبير)...
وجاء بعد ابنه يزيد فحكم لثلاث سنوات امتلأت بالفتن والاقتتال الداخلي وأعقب موت يزيد سنتان سادت فيهما الفوضى وتولى الخلافة فيها ثلاثة من الخلفاء جاء بعدهم عبد الملك بن مروان ابن عم معاوية فقضى على هذا الاضطراب وأخمد الفتنة بشجاعة وقسوة، فلما استتب له الأمر حكم البلاد بكثير من الرأفة، والحكمة والعدالة (وكانت مدة حكمه 20 سنة). وسار عبد الملك بن مروان على خطى معاوية، وحاول أن يطبق سياسته الداخلية في الجلوس للناس، وكان من فقهاء المدينة المعروفين، وقد احتج مالك في الموطأ بعمل عبد الملك، وكان من فاتحي إفريقية قبل الخلافة، وقد استقرت قواعد الدولة في عهده، وظهر طابعها العربي واستقلالها الحضاري.
أما ابنه الوليد الأول ففي عهده واصل العرب فتوحاتهم فاستولوا على بلخ في عام (86ه 705م) ، أما الوليد نفسه فكان مثلاً طيباً للحكام، يعني بشئون الإدارة أكثر من عنايته بالحرب، ويشجع الصناعة والتجارة؛ بفتح الأسواق الجديدة ، وإصلاح الطرق، وينشئ المدارس والمستشفيات ومنها أول مستشفى معروف للأمراض المعدية وملاجئ للشيوخ، والعجزة، والمكفوفين، ويوسع مساجد مكة والمدينة وبيت القدس، ويجملها، وينشئ في دمشق مسجداً أعظم من هذه المساجد وأفخم، ولا يزال باقياً فيها حتى اليوم.
وتولى عمر بن عبد العزيز الخلافة لأقل من ثلاث سنوات (99 /101ه 717 / 719م) أعاد سيرة الراشدين، .. وجعل حياته كلها وقفاً على إحياء شعائر الدين ونشره فتقشف في لباسه، وارتدى الثياب المرقعة حتى لم يكن أحد يظن أنه هو خليفة المسلمين، وأمر زوجته بأن ترد إلى بيت المال ما أهداه إليها والدها من الحلي النفيسة فُصدعت بالأمر، وقرب إليه أتقى العلماء في الدولة وأتخذهم له أعواناً ومستشارين. وعقد الصلح مع الدول الأجنبية، وأمر برفع الحصار عن القسطنطينية وعودة الجيش الذي كان يحاصرها، واستدعى الحاميات التي كانت قائمة في المدن الإسلامية المعادية لحكم الأمويين. وبينما كان أسلافه من خلفاء الأمويين لا يشجعون غير المسلمين في بلاد الدولة على اعتناق الإسلام، حتى لا تقل الضرائب المفروضة عليهم، فإن عمر قد شجع المسيحيين، واليهود، والزرادشتيين على اعتناقه، ولما شكا إليه عماله القائمون على شؤون المال من هذه السياسة ستفقر بيت المال أجابهم بقولهِ "والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا".
وحكم هشام بن عبد الملك الدولة تسعة عشر عاماً (106 – 125 ه ، 724-743 م) حكماً عادلاً ساد فيه السلم، وأصلح خلاله الشئون الإدارية، وخفض الضرائب، وترك بعد وفاته بيت المال مليئاً بالأموال.
لقد استمرت الدولة الأموية مائة عام، وهؤلاء كما نرى (معاوية ، وعبد الملك ، والوليد، وعمر ، وهشام) خمسة من خلفاء بني أمية، حكموا بنحو ثلاثة أرباع عمر الدولة، وقدموا خدمات كثيرة للحضارة الإسلامية، باعتراف مؤرخ غربي كبير، يحاول أن يقترب من الإنصاف، وذلك ضمن رصد شامل للحضارة الإنسانية.
7. هذا فقط عن فترة الدولة الأموية التي اقتطع منها الأسواني أمثلة صارخة على الظلم وتعمد التغافل عن الصورة بكاملها، وهذا اقتطاع غير أمين وفيه تلبيس على قرائه. إننا لو تصورنا تاريخ الحكم الإسلامي حضاريا من 1400 صفحة، سنجد منها 1300 صفحة بيضاء ناصعة وحوالي 100 صفحة سوداء مظلمة، فإذا بالأسواني يمعن النظر في هذه الصفحات السوداء ويركز عليها ويتغافل عن باقي الكتاب، ثم لا يكتفي بهذا فيزعم أن الكتاب كله أسود مخالف لمبادئ الدين إلا نحو ثلاثين صفحة فقط، وحتى هذه الورقات القليلة لم تسلم من الظلم، وكلام الأسواني هو عين الظلم.
8. وكنت أريد أن أكتفي بهذا، ولكن أزعجني أيضا أنه قفز على فترة الحكم العباسي واقتبس مقولة عن الخليفة أبي جعفر المنصور أنه قال (أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة وعنكم ذادة (حماة) نحكمكم بحق الله الذي أولانا وسلطانه الذي أعطانا، وأنا خليفة الله في أرضه وحارسه على ماله..). لو ثبت أن المنصور قائل هذه العبارة فقد أخطأ وقد منع جمهور الفقهاء أن يقال "خليفة الله" ونسبوا قائل ذلك إلى الفجور لأن الاستخلاف لا يكون إلا في حالة الموت أو الغيبة والله تعالى منزه عن ذلك. وبالمناسبة فإن حديث (السلطان ظل الله في أرضه، من نصحه هدي ، ومن غشه ضل) لا يصح وحديث موضوع، حكم بوضعه الشوكاني والألباني وغيرهما.
ولقد اجتهدت أن أجد أصل العبارة المنسوبة للمنصور دون جدوى، ولكن وجدت عبارة قريبة منها نقلها ابن كثير في البداية والنهاية عن إسماعيل الفهري قال (سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفة يقول: أيها الناس ، إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه على ماله ، أقسمه بإرادته ، وأعطيه بإذنه ، وقد جعلني الله عليه قفلا ، إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم فتحني ، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني ، فارغبوا إلى الله أيها الناس ، وسلوه - في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه ، إذ يقول : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا. أن يوفقني للصواب ، ويسددني للرشاد ، ويلهمني الرأفة بكم ، والإحسان إليكم ، ويفتحني لإعطائكم ، وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم ، فإنه سميع مجيب) . وهذه الألفاظ أقرب في شرح مقصوده، وقد قال الإمام الغزالي في الإحياء (فالدِّين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم المُلك والضبط إلا بالسلطان، وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه).
9. وهنا أحيل مرة أخرى إلى نفس المصدر الغربي الذي بطبيعة الحال لا يجامل المسلمين، لنرى كيف يصفون أبا جعفر المنصور. يقول ويل ديورانت في ترجمة المنصور –المجلد الخامس ص 4518 – ما نصه (... وكان الخليفة الجديد في سن الأربعين، طويل القامة، نحيف الجسم، ملتحياً، أسمر البشرة، شديداً في معاملاته. ولم يكن أسيرا لجمال النساء أو مدمنا للخمر أو مولعاً بالغناء. ولكنه كان يناصر الآداب، والعلوم، والفنون، ويمتاز بعظيم قدرته، وحزمه، وشدة بطشه، وبفضل هذه الصفات ثبت دعائم أسرة حاكمة لولاه لماتت بموت السفاح. وقد وجه جهوده لتنظيم الأداة الحكومية، وبنى مدينة فخمة هي مدينة بغداد واتخذها عاصمة للدولة، وأعاد تنظيم الحكومة والجيش في صورتيهما اللتين احتفظا بهما إلى آخر أيام الدولة. وكان يشرف بنفسه على كل إدارة في دولاب الحكومة، وعلى جميع أعمال هذه الإدارات، وأرغم الموظفين المرتشين الفاسدين - ومنهم أخوه نفسه - على أن يردوا إلى بيت المال ما ابتزوه من أموال الدولة. وكان يراعي جانب الاقتصاد بل قل الحرص الشديد في إنفاق الأموال العامة، حتى نفر منه الأصدقاء، وأطلق عليه لشحه لقب "أبي الدوانق". وقد أنشأ في بداية حكمه نظام الوزارة الذي أخذه عن الفرس، وكان له شأن عظيم في تاريخ العباسيين. وكان أول من شغل منصب الوزير في عهده خالد ابن برمك. وقد اضطلع بواجب خطير في حكم الدولة، وكان له شأن فيما وقع في أيام الدولة العباسية من أحداث جسام. وعمل المنصور وخالد على إيجاد النظام والرخاء اللذين جنى ثمارهما هارون الرشيد.
ومات المنصور بعد أن حكم البلاد حكماً صالحاً دام اثنتين وعشرين سنة وكان موته وهو في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج. ولم يكن في وسع ابنه المهدي (775-785) إلا أن يسلك في حكمه سبيل الخير. وقد شمل عفوه جميع المذنبين إلا أشدهم خطراً على الدولة.) اه.
قارن هذه السيرة بقلم مؤرخ غربي لخليفة حكم الأمة لاثنتي وعشرين سنة بذلك الاقتباس الذي أورده الأسواني لترى تعمد التشويه والتضليل.
10. الأمر الثالث الذي تعرض له الأستاذ الأسواني في مقاله كان سخريته واستخفافه بالذين ينادون أو يحلمون بعودة الخلافة الإسلامية وجعلهم نوعين من الناس: إما جاهل غافل أو سياسي مراوغ يريد الوصول إلى السلطة بأي طريقة. يصعب مناقشة رأي يساق بهذا الاستخفاف، وعلى أي حال فالخلافة الإسلامية حقيقة ظلت قائمة لأربعة عشر قرنا تقريبا وانتابتها فترات قوة وضعف لكنها ظلت دائما رمزا لوحدة المسلمين مع بقاء معظم أقطار المسلمين في غالب الأحيان بأنظمة حكم وإدارة تناسب ظروفها وبيئاتها. وهل يرفض أحد فكرة وحدة الأقطار الإسلامية حتى لو كانت حلما في ظروفنا الراهنة ؟. إننا نشهد الخطوات المتلاحقة في بنية الاتحاد الأوروبي المثير للإعجاب ونرى أحد قادته وهو الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي يرفض رفضا باتا انضمام تركيا لهذا "النادي المسيحي" ويقول بصراحة وصرامة (إنني لا أستطيع اعتبار دولة غالبية سكانها مسلمون دولةً أوروبية حتى وإن كانت تتبنى النظام العلماني الديمقراطي).
11. بقي كلام الأسواني وتعريضه باثنين من الصحابة الكرام هما عثمان ومعاوية رضي الله عنهما، وهو أمر مؤسف للغاية، وواضح أن الرجل ليس لديه أدنى دراية عما ينبغي مراعاته عند تناول أخطاء الصحابة. وبداية ننبه على أن الصحابة ليسوا معصومين من الأخطاء بل وقع منهم أشياء وهنات ولكنهم أفضل البشر بعد الأنبياء وتزكيتهم من عند الله تعالى مباشرة فقد رضي عنهم ورضوا عنه. ولذلك فإن أكثر الراسخين من أهل العلم أمسكوا عن الخوض في أخطاء الصحابة تقديرا لمقامهم وقدرهم، وتكلم فيها البعض من باب التعليم والاحتراز من تقليدهم في تلك الأخطاء منهم الحسن البصري وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي ، وكانوا إذا أرادوا ذكر شيء من ذلك قدموا له بالتنبيه على مكانة الصحب الكرام وأن سيئاتهم القليلة تتلاشى مع بحار حسناتهم وجهدهم وتضحياتهم من أجل دين الله. هذا كله فيما يخص كبار أهل العلم، أما من دونهم علما وفقها فلا يجوز لهم التعرض لهذا الباب أصلا، ولو فعلوا فمثلهم كمثل تلميذ صغير في الروضة يريد أن يناقش أخطاء علماء في الفيزياء مثلا حاصلين على جائزة نوبل، هل يُقبل هذا من التلميذ الصغير ؟ وهل يقبل أن يقال من باب حرية الرأي أن نسمع للتلميذ الصغير رأيه في أخطاء هؤلاء الكبار ؟ هذا هو عين العبث. إن المسافة بين كاتبنا الأسواني وأصحاب رسول الله أكبر وأعمق وأبعد من تلك التي بين ذلك التلميذ الصغير والحاصلين على نوبل.
12. إن التعريض بسلفنا الصالح ليس مجرد مسألة تاريخية وإنما هدفه أبعد من ذلك، إنه يُسقط مكانة ذلك الجيل الرفيع الذي اختاره الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وليكون جسرا ينتقل عليه الإسلام لمشارق الأرض ومغاربها، وإن معرفة مقامهم ومكانتهم يظل حافزا للمسلمين دوما للنهضة والتقدم. يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه "كيف نكتب التاريخ الإسلامي - ص 88" (.. وهذه الأمة أو قل بالتحديد قرونها المفضلة الأولى قامت بتطبيق مثالي لهذا الدين في عالم الواقع ، فارتفعت إلى عالم المثال مع بشريتها الكاملة وأثبتت في الوقت ذاته واقعية هذا الدين ، وقابليته للتطبيق في عالم الواقع . وتلك هي القيمة الحقيقة لهذه الفترة من التاريخ .
إن هذه الأجيال الأولى وخاصة الجيل الأول الفريد قد لا يتكرر مرة أخرى في واقع الأرض . ولكنها تبقى مع ذلك رصيدا واقعيا لهذه الأمة في جميع أجيالها ، يحفزها على محاولة العودة إلى تطبيق الإسلام . وهذه المحاولة ذاتها عمل إيجابي مثمر ، ولو لم يصل إلى كل النتيجة المطلوبة .
تصور إنسانا عند سفح جبل ، يعلم يقينا إن هناك من صعد هذا الجبل إلى قمته ، فهو يحاول أن يصعد مثله ، وقد يصل إلى منتصفه وقد يصل إلى ربعه ، وقد يفلس جهده بعد أن يرقى بضع درجات ...
وتصور إنسانا آخر وقف على سفح جبل يتطلع إلى قمته وهو يقول في نفسه : إن هذا مستحيل مستحيل أن يفكر إنسان في صعود هذا الجبل الشاهق ، فلنكف عن التطلع ، ولنرض بالبقاء في السفح أيهما أنفع للبشرية ؟ وأيهما أفضل في ذات نفسه؟.
ثم .. أي دور يؤده ذلك الذي صعد إلى القمة أول مرة ، في حياة كل الذين يجيئون بعده ، ويحاولون أن يصعدوا مثله ، ولو وصلوا إلى المنتصف ، ولو إلى ربع الطريق .. ولو أفلس جهدهم بعد رقي بعض الدرجات ؟
إنه دور ضخم في عالم الواقع ..
ولهذا نحتفي حفاوة بالغة بذلك الجيل الفريد ، وبتلك القرون المفضلة ،لأنها المدد الحي الذي يدفع الأجيال كلها إلى محاولة الصعود ، بدلا من أن تتنتكس إلى أسفل ، وتخلد إلى الأرض عند السفح وربما كان هذا هو السبب الذي يجعل المستشرقين يجهدون أنفسهم لمحاولة تشويه تلك الفترة بالذات ، لعلهم يطفئون بريقها ، ويحجبون نورها عن الأجيال المتأخرة لكي لا تفكر أبدا في معاودة الصعود من جديد). اه.
لقد قرأت مقالا آخر لكاتب علماني مشهور أيضا هو الأستاذ جهاد الخازن في جريدة الحياة قبل مقال الأسواني بثلاثة أيام فقط، كتب عن نفس الموضوع وبنفس الروح والاختلاف الوحيد أن الأسواني استثنى من ال 1432 عاما 31 فقط التي رضي عنها، أما الخازن فلم يعجبه إلا سنتين فقط لا غير هما فترة خلافة أبي بكر رضي الله عنه !. لكن الخازن رجع في اليوم التالي مباشرة واعتذر واعترف بخطأه وندم على ما فعل وسحب مقالته وقال في اليوم التالي تحت عنوان : أسحب مقالتي... وأعتذر (أثار مقالي يوم الاثنين الماضي عن الخلافة في الإسلام عاصفة من النقد لم تهدأ بعد، ولن أركب رأسي وأقول إنني مصيب والناس على خطأ، بل أقول إنني أخطأت وأسحب المقال، وأرجو من القراء أن يعتبروا انه لم ينشر، لأنني سأخرجه من مجموعة مقالاتي وأتلفه.
هذه أول مرة في حياتي أسحب مقالاً، بل إنني قبل مقال الاثنين لم أسحب سطراً واحداً في مقال أو أعتذر عنه، فأنا حذر جداً، إلا أن الحذِر يؤتى من مكمنه، والمقال كُتب الأحد، وهو يوم إجازة في لندن، وليس عندي الباحثون الذين أعتمد عليهم عادة في مراجعة المادة والتحقق من صحة النقل).
هل قرأ الأسواني مقال الخازن وقرأ تراجعه فأراد أن يكون أكثر جرأة منه على تشويه تاريخنا والعبث به؟ أم تراه كتب ما كتب بسوء فهم أو قلة علم أو بكليهما؟. لقد لمست في بعض عباراته عاطفة إسلامية أرجو ألا تسلمه إلا إلى خير وأن تدفعه للتراجع عن مقاله الذي لا يعلم إلا الله وحده كم صد شبابا عن دين الإسلام وكم أثار في أذهانهم الغضة من شبه باطلة.
إن أزمة الأسواني الفكرية أنه وقف أمام صفحات سوداء من تاريخنا وجعلها حصريا مصدر تفكيره منها يبدأ وإليها ينتهي، ولو جعل تلك الصفحات موضع تفكيره (وليس مصدر تفكيره) لزال الغبش عن فكره والغشاوة عن بصره.
http://www.facebook.com/Dr.M.Hesham.Ragheb


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.