لا شك أن مصر بعد الثورة، مرت بظروف استثنائية، وتولى الجيش مهمة إدارة البلاد مؤقتا، فيما تسلم تركة أمنية شديدة الاضطراب خلفها له الرئيس السابق ووزير داخليته، ويكفي أن نذكُر هنا أن مبارك والعادلي، أطلقا في شوارع وحواري وميادين مصر كلها نحو 27 ألف سجين ومسجل خطر حاملين السلاح والذخيرة، أطلق سراحهم عمدا من السجون، لإشاعة الفوضى والاضطرابات في البلد، ضمن خطة تحمل الناس على أن يقبلوا بمبارك لقاء الأمن والاستقرار.. فضلا عن نحو400 ألف بلطجي كانوا يعملون تحت ولاية ضباط مباحث أمن الدولة المنحل. بيئة ما بعد الثورة، ومع تولي الجيش مسؤولية الحكم مؤقتا، فرضت على الأخير أن يتحمل مسؤوليته التاريخية، إلى أن يسلم البلد خلال الشهور القليلة القادمة، لحكومة مدنية منتخبة ورئيس جمهورية منتخب.. كان من الطبيعي أن يُعمل الجيش قانون الأحكام العسكرية، لردع مليشيات مبارك من البلطجية والمساجين والمسلحين بأسلحة خفيفة حديثة ومتطورة، وكان من استحقاقات الواجب الوطني للمؤسسة العسكرية، أن تستخدم كل أدوات الردع لتأمين حياة الناس إلى أن تستعيد الأجهزة الأمنية والقضائية المدنية عافيتها، وهي مسألة قد تأخذ بضع سنوات. ومع ذلك تظل هذه المرحلة استثناء وليست قاعدة، لأن القضاء العسكري والقوانين العسكرية، لها خصوصيتها وقد وضعت لمحاكمة العسكريين وليس المدنيين، ولا يجوز عرض المتهمين المدنيين إلا على القضاء المدني الطبيعي، وإذا كان ثمة مبررات اقتضتها أوضاع مصر ما بعد الثورة، خلطت المدني بالعسكري، فإن الفصل بينهما لا بد أن يبدأ بالتدرج، وبالتزامن مع عودة المؤسسات الأمنية والقضائية المصرية، إلى ملء الفراغ الكبير الذي خلفه مبارك بمؤامرة شديدة الرخص على أمن البلد وعلى مؤسسة العدالة فيها. سيظل القضاء الطبيعي هو الضمانة الأكبر، لاسترداد أموال مصر المنهوبة في الخارج، طالما حوكم المتهمون والفاسدون أمام القضاء المدني، إذ لا تعتد المؤسسات الدولية، بالاحكام الصادرة من القضاء العسكري والاستثنائي، فضلا عن أن من أهم العناصر التي تشكل القوام الأساسي للدولة المدنية هو القضاء الطبيعي، وليس الاستثنائي. هذه من المسلمات التي لا يجوز أن نحيد عنها، غير أن المسألة تحتاج في مصر بعد الثورة إلى اصلاحات كبيرة وجسورة داخل مؤسسة العدالة المدنية، ربما تبدأ بالتطهير المتدرج لها من العناصر التي يشتم في سيرتها المهنية رائحة ما يشين ثوب العدالة الطاهر، بالتزامن مع فرض معايير الشفافية في أدوات فرز وفلترة المتقدمين للعمل في هذه المؤسسة التي تتسم بالهيبة والقداسة، وعلى رأس ذلك إعلاء قيم "الكفاءة" وليست "المكافأة"، ووضع حد لالتحاق ضباط الشرطة بالعمل في القضاء، وفرض رقابة صارمة على سلوك وتصرفات رجال السلك القضائي وخاصة وكلاء النيابة العامة من صغار السن، للحد من التعاطي الطبقي الفوقي والاستعلائي على المجتمع، وللحيلولة دون سيادة ثقافة العنجهية والغطرسة في التعامل مع المواطنين، ومعاقبة كل من يثبت إدانته في أي سلوك شائه ومشين في الشارع قد يستفز الناس، ويعتبر خصما من هيبة القاضي أو وكيل النائب العام، وفوق ذلك كله المبادرة في سن التشريعات والقوانين التي تكفل استقلال القضاء إداريا وماليا عن السلطة التنفيذية، على النحو الذي يحمي القاضي من قمع السلطة السياسية وقهرها، مع تفعيل أدوات تأديب القضاة من داخل المؤسسة ذاتها بشكل صارم تكون فيه الولاية للعدل والانصاف والقانون ، وليس "الترويع" الاداري السلطوي كما هو معمول به حتى اليوم. [email protected]