مضت الانتخابات الداخليَّة التي أجرتها الجماعة الإسلاميَّة، وشملت جميع هياكلها التنظيميَّة من القاعدة إلى القمَّة، وسط صمت إعلامي مريب، وتجاهلها حتى كتاب الأعمدة والمقالات، بما في ذلك الأصوات المحسوبة أو القريبة من الإسلاميين، مع أنه وفقًا للقواعد المهنيَّة البحتة فإن الانتخابات تعد حدثًا إعلاميًّا لافتًا، لكونها الأولى التي تجري داخل جماعة هجرت العنف، وتحولت للعمل السلمي، عقب مراجعات فكريَّة وفقهيَّة غير مسبوقة، شكَّلت اللبنة الأولى لمراجعات أخرى في عدة دول. واللافت في انتخابات الجماعة الإسلاميَّة ليس فقط أنها تمت في سلاسة ويسر ودونما أي انشقاقات أو خلافات، بل أيضًا أن الانتخابات أصلا كانت هي الحل الحضاري الذي اتفق قادة الجماعة على الاحتكام إليه لحلّ الخلاف الذي نشب بينهم، في خطوة بالغة الدلالة لجماعة تعرضت لحرب أمنيَّة ضروس، وقضى جلّ قادتها العقدين الأخيرين خلف القضبان، ورغم ذلك ما زالت قادرةً على تنظيم صفوفها، وإجراء انتخابات شفافة يلتزم الجميع بنتائجها، لتبرهن مجددًا صلابة "الرابط المعنوي" الذي يجمع أعضاءها، بعدما تجلى ذلك قبل سنوات في عدم تسجيل أي خرق لإعلان نبذ العنف طوال عقد كامل، رغم تلكؤ الأجهزة الأمنيَّة في الإفراج عن الآلاف من كوادر الجماعة. رسوخ المراجعات والمتابع للأحداث المتتالية عقب ثورة 25 يناير، يلاحظ أن احتمال تراجع الجماعة الإسلاميَّة عن نبذ العنف، بعدما انهارت الدولة البوليسيَّة التي صنعها جهاز مباحث أمن الدولة، لم يكن أمرًا مطروحًا للنقاش، ما يعكس ثقة كبيرة في رسوخ المراجعات وقناعة كوادر الجماعة بها، كذلك فإن انخراط الجماعة في مظاهرات التحرير كان واضحًا للجميع منذ الأيام الأولى للثورة، ولعب كوادر الجماعة دورًا مشهودًا في التصدي لبلطجية النظام يوم "موقعة الجمل"، وإن كانت الجماعة فضَّلت "إنكار الذات" وعدم الحديث عن دورها، حتى لا تكون الثغرة التي تضرب منها الثورة، بحسب د. صفوت عبد الغني، القيادي في الجماعة. كذلك فإنه يُحسب للجماعة أنها لم تنجرّ للأحداث الطائفيَّة التي وقعت عقب الثورة، بل إن رمزها الأبرز في أسيوط د. عبد الآخر حماد نجح في احتواء أزمة طائفيَّة عقب مقتل أحد القساوسة، ما دفع الأقباط الغاضبين للاعتداء على اثنين من أعضاء الجماعة تصادف وجودهما قرب موقع الحادث، وتدخل "حماد" وأقنع حشود المسلمين بالتفرق وتفهّم غضب الأقباط، ثم كشفت التحقيقات أن الحادث كان بغرض السرقة، وتقف وراءه خادمة القس المسيحيَّة، لتبدي الكنيسة اعتذارها عما حدث، ويذهب حماد ومعه وفدٌ من الكنيسة إلى مديرية الأمن لتهنئة قادتها على كشف غموض الجريمة ونزع فتيل الفتنة. تجديد الثقة ونجح قادة الجماعة بالمنيا في تكرار نفس السيناريو عقب أحداث أبو قرقاص، ورغم أن الأحداث أسفرت عن مقتل اثنين من المسلمين على يد عائلة مسيحيَّة، إلا أن قادة الجماعة استخدموا ثقلهم في الشارع وثقة الناس بهم، لإقناع عائلة الضحايا بقبول حكم القانون، كذلك فإن أعضاء الجماعة انخرطوا بقوَّة في اللجان الشعبيَّة التي تشكَّلت عقب اختفاء الشرطة من الشوارع عقب مظاهرات 28 يناير، خاصةً في محافظات الصعيد وأحياء القاهرة الشعبية، حيث مراكز الثقل التقليديَّة للجماعة. ويضاف إلى ذلك أن كوادر الجماعة، ربما بحكم الخبرة وتجارب السنين، لم ينجروا للمعارك الفرعيَّة التي تورَّط فيها بعض المحسوبين على التيار السلفي، مثل هدم الأضرحة أو التظاهر أمام الكاتدرائيَّة، ويبدو أن قادة الجماعة كان لديهم أولويات أخرى أكثر إلحاحًا تتعلق بمستقبل الجماعة، وكيفيَّة ضخّ دماء جديدة في عروقها، التي تجمدت بفعل سنوات السجن والملاحقة الأمنيَّة، خاصة أن التطورات المتسارعة عقب الثورة كشفت عن تباينات عدة بين قادة الجماعة، الأمر الذي استوجب العودة إلى "القواعد" لاستفتائها في الأمر، وتجديد الثقة في مجلس الشورى الذي يقود الجماعة منذ أكثر من ثلاثة عقود، حيث أن محنتي السجن والمطاردة حالتا دون إجراء انتخابات داخليَّة طوال تلك الفترة. مرجعيَّة توافقيَّة وأول الملاحظات التي يمكن تسجيلها على نتائج الانتخابات، هي خروج عدد من القادة المؤسسين من مجلس الشورى الجديد، مثل كرم زهدي، رئيس مجلس الشورى السابق، وحمدي عبد الرحمن وعلي الشريف وفؤاد الدواليبي، وخروج هذا الرباعي لم يكن مفاجئًا حيث أنهم بالفعل اعتزلوا العمل العام وابتعدوا عن الأضواء عقب خروجهم من السجن، ولم يبدوا حماسًا للفوز بفترة جديدة، وفي المقابل انضمَّ للمجلس كل من صفوت عبد الغني وصلاح هاشم وعلي الديناري، والثلاثة أسماء لها ثقلها لدى أعضاء الجماعة. والملاحظة الثانية هي أن الجماعة بات لديها مرجعيَّة رمزيَّة، تسمو فوق الأطر التنظيمية وتتمتع بثقة وحب كافة الأعضاء، وهذه المرجعيَّة تتمثل في لجنة الوفاق والمصالحة، التي يرأسها د. عبد الآخر حماد، حيث تولَّت اللجنة الإعداد للانتخابات والإشراف على كافة مراحلها، ويلاحظ أن حماد اعتذر عن الترشح لمجلس الشورى، رغم أنه حصد أعلى الأصوات في الانتخابات التمهيديَّة، وهو ما يعزِّز دوره كمرجعية يمكن اللجوء إليها إذا ما استحكم أي خلاف داخل مؤسسات الجماعة. الدعويّ أولا أما ثالث الملاحظات فيتعلق بترتيب الأولويات التي وضعتها الجمعية العمومية للجماعة، فالدعويّ في المقدمة، يليه الخيري، ثم السياسي، ولذا فقد تقرَّر البدء بتأسيس جمعية أهلية تحتوي الأنشطة الدعوية والخيريَّة، على أن يلي ذلك إنشاء حزب سياسي، ويلاحظ أن ذلك الترتيب يختلف مثلا عن جماعة الإخوان المسلمين، التي توجّه جل جهدها للعمل السياسي، كما أنه يختلف عن السلفيين، الذين لا يعيرون اهتمامًا يُذكر بالعمل السياسي، ولعلَّ ذلك التمايز يعزِّز العمل الإسلامي ويقلّل من الاحتكاك بين مختلف جماعاته. وفي ملاحظة رابعة، أقرت الجماعة، على لسان قائدها الجديد عصام دربالة، بافتقاد هيكلها لعنصر الشباب في المرحلة العمريَّة ما بين 15 و30 عامًا، فالاعتقالات الأمنيَّة في تسعينات القرن الماضي طالت الغالبية العظمى من كوادر الجماعة، ومنعتها من تجنيد أي كوادر جديدة، واستمرَّ هذا الأمر عقب خروج أعضاء الجماعة من السجن بعد إعلان المراجعات، بسبب الملاحقة الأمنية وإعادة اعتقال من يحاول العودة مجددًا للعمل الدعوي. فرصة سانحة وهكذا فإن الجماعة مطالَبة في المرحلة المقبلة بإعادة طرح نفسها من جديد على الشارع، وتقديم برامج وخطاب فكري ودعوي قادرَين على مواكبة التغيرات الأخيرة، مع الأخذ في الاعتبار أن العمل الدعوي والخيري بات مفتوحًا للجميع، وهناك تجارب فرديَّة، مثل جمعية "رسالة"، والتي حققت ناجحًا باهرًا، يفوق ما فعلته مؤسسات وجماعات عريقة، كذلك فإن ما يسمى "الدعاة الجدد" صنعوا في السنوات الأخيرة حراكًا واسعًا، وامتلكوا مرونة ساعدتهم على تجاوز الحواجز الأمنيَّة، التي وقفت بعض الجماعات والتيارات مستسلمةً أمامها. ورغم أن الجماعة الإسلاميَّة تعاني من شح الموارد الماليَّة، وتفتقد لكوادر شابة تستطيع التحرك وسط الفئات العمرية الصغيرة، إلا أن تجربة الثمانينيات والتسعينات تشير إلى امتلاك الجماعة لنوع من "النقاء والطهر" الاستثنائي، ما مكنها من تحقيق انتشار هائل في فترة قصيرة، وقد أثبتت الانتخابات الداخليَّة الأخيرة أن هذا النقاء ما زال على حاله، وهو ما يؤهلها لتكرار هذا النجاح، خاصة أن محافظات الصعيد، حيث الثقل الأساسي للجماعة، ما زالت أرضًا بكرًا، وتحتاج إلى الكثير من العمل والجهد، خاصة على الصعيد الخيري والإنساني، وأيضًا على الصعيد السياسي، حيث أن المتغيرات التي أعقبت الثورة تفتح الطريق لإنهاء هيمنة العائلات الكبيرة على مقاعد البرلمان والمحليَّات، بعدما انهار تحالفها التاريخي مع الحزب الوطني، ويمكن لكوادر الجماعة ملء هذا الفراغ، ولو بشكلٍ جزئي، خاصة أن الانتخابات المقبلة ستكون مختلطةً ما بين القائمة والفردي. المصدر: الاسلام اليوم