الوضع الاقتصادي خطير للغاية!! فعجز الموازنة وصل إلى مستوى قياسي وتاريخي، ببلوغه ما يزيد عن 32%، فرص النمو الاقتصادي تكاد تكون مستحيلة، نتيجة للتراجع الحاد في الخدمات المالية، وانكماش الاستثمارات، ليس أمامنا إلا البحث عن حزمة قروض تصل إلى 100 مليار دولار، لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، فحجم الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي وصل إلى 92%، وتكتمل المصيبة بإعلان المؤسسات الدولية عن خفض التصنيف الائتماني، بسبب حجم المشاكل المالية التي تعاني منها البلاد. بالطبع لا بد أن تشعر بالاكتئاب نتيجة هذه الجرعة المفزعة عن الوضع الاقتصادي، قد تعيد التفكير فيما جنته الثورة علينا من وضع متدهور وخطير، ولكن مهلاً يا عزيزي.. فكل ما سبق من معلومات وأرقام إنما تتعلق بأداء العام الماضي للاقتصاد في أيرلندا، وهي الدولة العضو في منطقة "اليورو"، وبالمناسبة لم تحدث في أيرلندا ثورة مثل التي حدثت في مصر وغيرت النظام بأكمله، ولكن الفرق بيننا وبينهم كان في التعامل الهادئ والمتزن جدًا من كل الأيرلنديين تجاه أزمتهم الاقتصادية، حتى لا تكاد تشعر أن هناك أزمة من الأساس. أنا لا أدعي أن الأمور كلها تمام، ولا أزعم عدم وجود مشكلات كبيرة تواجهنا، بل على العكس تمامًا.. أعرف أن هناك الكثير من التحديات والعقبات التي تعترض طريق نجاح ثورتنا العظيمة، ولكن الفرق كبير بين أن تصبح في حالة هلع وبكاء على واقع مرير، ومستقبل مظلم، وهو ما يؤدي إلى الشعور بالإحباط والقعود، وما بين قراءة هادئة للأمور تدفعك للعمل، والبحث عن حلول، واليكم أسبابي المشروعة للتفاؤل. الخرافة الأولى التي صرنا نستمع إليها كثيرًا في وسائل الإعلام، هي أن مصر على وشك الإفلاس، وأننا بنهاية العام لن يصبح لدينا أي رصيد من الاحتياطي النقدي، وأصبحت فزَّاعة انهيار الاقتصاد تتصدر الصورة الآن، وتأخذ مكانها مع فزَّاعات السلفيين والإخوان والانفلات الأمني، وقد كفاني في الرد على هذه النقطة مقالات منشورة للدكتور "عمرو إسماعيل" و"وائل جمال" بجريدة الشروق، وفيها يوجد تشخيص حقيقي لحالة الاقتصاد، بدون تهويل أو تهوين، فنحن نمر حاليًا بمرحلة "الركود" الراجعة لانكماش الأنشطة الإنتاجية والاستثمارية، ومن ثم انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، ولا شك أن هذا ينعكس على إيرادات الدولة، فيتضخم العجز في الموازنة، (وهو الفارق بين مصروفات وإيرادات الدولة)، والذي بلغ حوالي 10% (مقارنة ب8% في السنوات القليلة الماضية)، وهو فارق ليس بالكبير، خاصة إذا علمنا أن العجز في موازنة مصر بنهاية الثمانينيات بلغ حوالي 20% ، وبالمناسبة لم يعد عجز الموازنة مقدسًا بالنسبة للاقتصاديين كما كان قبل الأزمة العالمية، فالعجز المتوقع هذا العام في الولاياتالمتحدة يقترب من 11%، وبدون ثورة عندهم. يتوقع أيضًا أن يصل التضخم في مصر بنهاية العام إلى حوالي 12%، وهي ذات النسبة بفارق ضئيل منذ 2006 نتيجة لارتفاع أسعار الغذاء والنفط العالميين، هناك بلا شك مشكلة الاحتياطيات النقدية الأجنبية التي تراجعت من 36 مليار دولار، إلى 30 مليار في خمسة شهور، ولكن التاريخ يذكر أنه في آخر سنة من وزارة "عاطف عبيد" انخفض الاحتياطي الأجنبي من 20 مليار إلى 14 مليار ولم يحدث إفلاس للبلاد، صحيح أن نمو الاقتصاد المصري تراجع بنسبة 7% في النصف الأول من العام، ومحتمل أن ينتهي بانكماش سالب قدره 2 بالمائة، وهي نسبة كبيرة ولكنها مؤقتة، فالاقتصاد نفسه انكمش بذات النسبة في العام 2002 ولم ينهر الاقتصاد، ومرة أخرى أطلب منكم الرجوع إلى تقارير وأرقام الاقتصاد الأيرلندي. تفاؤلي أيضًا منبعه أن الإرادة الحقيقية للتغيير لا بد أن تنتصر في النهاية، فلا يوجد أبدًا مشكلة ليس لها حل، ولذلك فقد كان طبيعيًا أن يبدأ التفكير في كنز الصناديق الخاصة، والتي كانت تمثل عائداً للهيئات الحكومية تقوم بالصرف منه بدون رقيب، ومن دون أن يدخل خزينة الدولة ليصبح جزءًا من موازنتها، لن يستطيع خيالك أن يصل إلى تصور لحجم هذه الأموال، خذ نفسًا عميقًا.. فإجمالي الصناديق الخاصة يصل إلى تريليون وربع التريليون جنيه، حسب إحصائيات الجهاز المركزي للمحاسبات العام الماضي (وهي أرقام غير دقيقة لصعوبة حصر كل تلك الصناديق)، وكانت البداية الجيدة بقرار وزير المالية إدراج 36 مليار جنيه منها في الميزانية، هناك أيضًا مصدر مهم للدخل لم يتأثر على الإطلاق -ذكرني به الزميل المهندس عادل جمعة- والمتمثل في إيراد قناة السويس، بل بالعكس فقد ارتفعت الإيرادات في أبريل 2011 عن نفس الشهر من العام الماضي بنسبة 15.9% لتصل إلى 434.6 مليون دولار، كما زادت الإيرادات خلال الشهر الأخير عن شهر مارس بنسبة 5.1%، وآخر الأنباء السارة هو ارتفاع إنتاج محصول القمح لهذا العام بنسبة 25%، وهو ما يعني توفير عملة أجنبية كانت موجهة للاستيراد، بالإضافة إلى موافقة وزارة الزراعة على البدء في مشروع الاكتفاء الذاتي من القمح، بتكلفة استثمارية تصل إلى 3 مليارات جنيه، يمولها المصريون في الخارج. قد يتهمني البعض بأني مفرط في التفاؤل، ولكن أجد لي كل الحق في ذلك، حضرت في دبي منذ أيام "منتدى الإعلام العربي"، وهناك وجدت حالة عالية من الانبهار بالثورة المصرية في عيون وكلمات كل الإعلاميين العرب والغربيين، لم أتصور أن تجربتنا أصبحت ملهمة بهذا الشكل، أصبح العَلَم المصري رمزًا للإرادة والتحدي، وجدناه يرتفع الأسبوع الماضي في أسبانيا ضمن احتجاجات شعبية على الأوضاع الاقتصادية، وكتبوا على لافتاتهم "هنا ميدان التحرير"، الجميع ينظر إلينا أننا أصحاب معجزة حقيقية، والكل ينتظر المارد المصري الذي بدأ في خروجه من القمقم، المهم أن يبدأ كل منا في ممارسة دوره المطلوب في تحقيق التنمية والنهضة، لسنا أقل من اليابان التي قررت نقابة العمال فيها أن يعمل كل الموظفين ساعتين إضافية يومية بدون مقابل، مساهمة منهم في دفع عجلة الاقتصاد، وتعبيرًا عن حبهم للوطن، بعد كل ما تعرضت له بلادهم من خسائر، نعم نستطيع أن نكون مثل شعب اليابان الذي لا تنهزم إرادته أبدًا، يمكن أن نتفوق على الجميع، فقط ما نحتاجه أن تتوفر لدينا هذه الإرادة ونبدأ في العمل الجاد، أرجوكم لا نريد أن نعيش في الماضي كثيرًا، وتصبح كل نقاشاتنا عن رموز النظام السابق، فلنترك القضاء المصري يمارس دوره ولنتطلع نحن للمستقبل، وعندها.. أعدكم بأن المارد المصري لن يستطيع أحد إيقافه. [email protected]