في ذكرى مرور خمسين سنة على استقلال تونس ألقى رئيس الجمهورية التونسية زين العابدين بن علي اليوم الاثنين 20 مارس2006 خطابا جميلا من حيث اللفظ ثريا من حيث مجالات الاهتمام,ولكنه كان وللأسف الشديد متغافلا عن التطرق لأكبر اهتمام شغل الساحة الوطنية والمهجرية وحتى المراقبين الاعلاميين والسياسيين والحقوقيين من داخل وخارج الساحة التونسية واذا كنا في جملة مايمكن ابداءه من ملاحظات حول هذا الخطاب ليس لدينا من اعتراضات بوجه عام حول ماأورده نص الخطاب من فقرات وبيانات ووعود,الا أننا نسجل غيابا أظنه كان مقصودا لموضوع الحريات ببعدها السياسي الحزبي والجمعياتي والتنظمي وحتى الفردي, وكذلكم ببعدها الفكري والثقافي والاعلامي حيث أصبح من المعلوم بمكان لدى كل المراقبين الموضوعيين للساحة التونسية أن أزمة تونس المركزية والرئيسية تكمن في غياب مناخات الحريات الأساسية وفي التعدي المستمر على حقوق الانسان منذ حوالي العقد ونصف تقريبا اذا ماقيمنا الأمور بناء على رصد لفترة حكم مابعد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة واذا كانت أرقام المؤسسات البنكية والمصرفية العالمية تتحدث عن نسب محترمة لمعدلات النمو ,واذا كانت التقارير الاجتماعية العالمية تتحدث عن تقدم حققته تونس في هذا المجال استنادا الى مقارنة سريعة بدول الجوار العربي والافريقي ,الا أن التقارير السياسية والحقوقية والاعلامية سواء الوطنية منها أو العالمية تجمع على أن تونس تعيش أزمة غير مسبوقة في فضاءات الرأي والتنظم والاعلام ,وهو ماحدى النخبة التونسية الى تشكيل مبادرة سياسية وحقوقية أعلنت عن نفسها منذ شهور قلائل في اطار هيئة18 أكتوبر للحقوق والحريات وعلى افتراض صحة ماتقدمه الدولة التونسية من أرقام احصائية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي وكذلك مانسمع به من تصريحات مسؤولين كبار في المجال المصرفي الدولي وربما حتى في المجال السياسي كما هو حاصل مع تونس من قبل الرئيسين بوش وشيراك,فاننا لن نبادر أصلا في هذا الموضع الى التشكيك في أرقام مؤسساتية تقدمها مؤسسات عالمية في رصد مستويات ومعدلات النمو في سائر أنحاء العالم ,وانما سنقف بمناسبة خطاب الرئاسة في ذكرى الاستقلال متسائلين عن معاني الاستقلال الحقيقي والسيادة الوطنية في ظل وجود مئات من المعتقلين السياسيين القابعين في الزنزانات منذ مايقارب العقد ونصف وعن معنى الاستقلال في ظل تفشي ظاهرة التعذيب في مراكز التحقيق والسجون ,وعن معاني هذا الاستقلال وهذه السيادة في ظل بقاء الالاف بعد خروجهم من السجن في حالة عطالة عن العمل والدراسة والحرمان من حق العلاج والسفر وربما حتى التنقل من جهة الى أخرى كما هو شأن من فرضت عليهم الرقابة الادارية والامضاء اليومي لدى الشرطة بعد خروجهم من السجن بعد رحلة طويلة من رحلات الاعتقال السياسي يحق لنا اليوم أن نتساءل عن معاني هذا الاستقلال وهذه السيادة والالاف يعيشون حالة النفي القسري والحرمان من استنشاق هواء الوطن والجلوس فوق ترابه ومعانقة الأهل والخلان فيه,كما نتساءل عن معاني هذا الاستقلال وهذه السيادة في ظل تضخم جهاز الأمن والشرطة الى الدرجة التي أصبح المواطن يعيش فيها حالة الذعر والرعب المستمر ,ولانغفل عن حالة الأحزاب والجمعيات المستقلة عن هوى السلطة ,فمقراتها تحاصر وأعضاؤها يأخذون في أحيان كثيرة لمراكز التحقيق,وهناك يتعرضون للأذى المعنوى وأحيانا للأذى البدني,أما عن صحف هذه الأحزاب فهي تخضع للمساومة ,فبالقدر الذي تتحرر فيه سياساتها عند الكتابة والنشر بالقدر الذي تقطع فيه المنح والهبات التي تسندها لها الخزينة العامة للدولة,هذا اذا لم نذكر مصادرة بعضها أحيانا نتيجة الخوض في قضايا حساسة تهم الشأن العام الاعلام في تونس يشهد تخلفا غير مسبوق اذا ماقارنا المشهد الاعلامي باصدارات السبعينيات والثمانينات بل حتى بالعودة الى ماعرفته الساحة الوطنية من نشاط اعلامي مزدهر على عهد الحقبة الاستعمارية,التي وان هيمنت عسكريا وسيطرت سياسيا. الا أن القائمين عليها أدركوا أن هناك مساحات للتنفيس النخبوي والشعبي لاينبغي المساس بها ,واذا كانت الجهات الحكومية تتحدث اليوم عن التعدد الاعلامي فان ذلك يكون صحيحا بمعنى العدد ولكنه مغالطا ودعائيا فيما يخص المضمون ,حيث تتزاحم الألوان والصور في مشهد عار عن حقيقة الثراء الثقافي والفكري والسياسي والمضموني حتى يخال المرء نفسه أمام صحافة مجمعة على الاغراء أو فنون البروباغندا لكل ماهو حكومي ورسمي حتى وان كان الخبر في كثيرا من الأحيان عاريا عن الصحة ,أما المشهد الاعلامي المرئي فخير شاهد عليه قناة سبعة والتي تعكس حالة من التخلف والتردي في مواكبة القضايا والمشاغل الحقيقية للوطن والمواطن وعلى العموم فان الكرامة والاستقلال والسيادة لايمكن أن تعني شيئا للمواطن اذا كان هذا الأخير يشعر بالقهر والغبن والجور في ظل تدهور قدرته الشرائية ,والتفويت في مؤسساته العمومية وضياع البعض من بنيه بين انحراف وعطالة وازدراء للنفس والذات والسقوط في أفيون اليأس والبؤس ولاتحدث الناس عن معاني الحرية والسيادة والاستقلال ,اذا كان الكل يدرك أن خط هاتفه مراقب وأن ابحاره عبر الانترنيت يخضع للمتابعة والرصد ,وأن مشاهدته للقنوات التليفزيونية كقناة الجزيرة يخضع للمساءلة والتدوين لدى بعض مراكز البوليس كما حدثني أحد الذين أفرج عنهم من معتقلي الرأي منذ أسابيع قليلة فقط وأي سيادة وأي استقلال يمكن لنا كتونسيين لنا أن نفخر بها اذا كان القضاء غير مستقل والقضاة تقتحم عليهم جمعياتهم وتنصب عليهم اللجان المحروسة؟,وأي استقلال نتطعمه اذا كان المحامون يشعرون بمرارة وأحد زملائهم مازال قابعا في السجن وسيف التهديد والوعيد مازال يقبع أمام مكاتبهم تهديدا للحرفاء وتجريدا من حق المرافعة الحرة وتجويعا لأصحاب العباءة السوداء,وأي سيادة هذه والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان تمنع من عقد مؤتمرها الخامس بفعل مكيدة تلبست بزي القرار القضائي ,وأي سيادة هذه والمجلس الوطني للحريات ينشط خارج دائرة القانون وتقاريره تتعرض للاستخفاف والتكذيب ,وأي استقلال وسيادة هاته اذا كانت الأحزاب الفعلية والحقيقة ومناضلوها يتعرضون للهرسلة والملاحقة والتهديد والوعيد بسيف القانون بدل الاعتراف والاحتواء بوعاء القانون واذا كان اساتذة الجامعات لايشعرون بحريتهم الأكاديمية ,وواقع الحال يقول بأن محاضراتهم تخضع للرصد واطروحاتهم تعرض على الرقيب ونشرها يخضع لغير التوصيات والملاحظات العلمية ,فانني لن أضطر لأحدثكم عن واقع الحركة الطلابية وماتتعرض له من مضايقة وخنق أما عن النقابيين فهم الاخرون يشعرون بأن أعرق مؤسسة عربية للدفاع عن الشغالين لم تعد قادرة على الوفاء لطموحات محمد علي الحامي وأحلام فرحات حشاد أيام الحركة الوطنية ,هؤلاء الذين حلموا بدولة أخرى تقدر المعاني الحقيقية لاستقلال الوطن وكرامة المواطن وختاما وحتى لاأضع القارئ أمام خيبة أمل كبرى في معاني الاستقلال التي تمر ذكراها الخمسين على تونس وأحلام النخب والجماهير تخيب أمام غياب تمثيل سياسي وتشريعي وجهوي وبلدي حر ,فان معاني الوفاء لتضحيات الشهداء والمناضلين والمقاومين والمكافحين قد تضيع فعلا اذا لم تسارع السلطة الى وقفة حقيقية مع سجل الحريات العامة والخاصة وسجل مصداقية الاستحقاقات الانتخابية فتشرع على ضوء هذه القراءة الأمينة والمخلصة والصادقة في مراجعة قضايا الاصلاح بشكل عام بعيدا عن كيل الاتهامات والتخوين والاحتقار السياسي للخصوم وبعيدا عن اللعب بورقة المزايدة على وطنية الوطنيين باثارة موضوع الارتماء في أحضان السفارات الأجنبية ,هذه السفارات التي لم تستقبل معارضا أو حقوقيا لو أن الأوضاع الداخلية كانت على أحسن مايرام ,فلم لاتفوت السلطة الفرصة عليها بالشروع قدما في انجاز الاصلاح المطلوب؟ كاتب واعلامي تونسي[email protected]