فائدة الأحاديث المتتالية للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي أنها تكشف عن مكنوناته، وكيف يفكر، ورؤيته لبناء الوطن والدولة، وإحداث التنمية والنهوض، فهو قادم من مجال العسكرية المسكون بالسرية، وحوائط الأمن القومي، لكننا نعرف حمدين صباحي جيدا فهو خريطة واضحة المعالم دقيقة التفاصيل. وهذا هو الفارق بين السياسي والناشط في المجال العام، وبين العسكري السابق مثل السيسي المشوب بالغموض والذي لا تُعرف له أي خبرة أو نشاط سياسي بحكم طبيعة وظيفته. أحمد شفيق مثلا كان حالة مختلفة لأنه غادر العسكرية وانهمك في العمل الحكومي وزيرا وصارت له صفة سياسية واستفاد من عشر سنوات عضوا بالحكومة والاحتكاك بالحياة المدنية، كما ارتفع سقف خبرته السياسية عندما تولى رئاسة الوزارة في فترة شديدة الصعوبة خلال ثورة 25 يناير، ثم تواصل دوره وراكم خبرات مع ترشحه للرئاسة وتجواله في أحشاء مدن وقرى مصر، بعكس السيسي الذي استقال من الخدمة العسكرية وفي اليوم التالي كان مرشحا رئاسيا، والذي يبدو شديد الأناقة، لم يواجه يوما أية معاناة، وتأتي له الوفود طائعة مختارة إلى حيث يكون في تلك الأماكن الفخمة، وهو الذي يتحدث معظم الوقت، وزواره ينصتون ولا يناقشون، بل يسعون لكسب وده ورضاه، ويحرصون على التقاط الصور التذكارية معه ويعتبرونها حصانة لهم مجتمعيا ووظيفيا وأمنيا. وكلما تحدث السيسي أكثر تكشف لنا هذا الرجل أكثر ووضحت ذهنيته، وأولوياته، خصوصا وهو يترشح كفرد لا يستند لحزب سياسي نعلم برنامجه ومساره وتاريخه، ولذلك يظهر لي بعد عدة أحاديث أننا ربما سنكون أمام حاكم فرد جديد، أمام امتداد لنفس النهج الذي كان قائما قبل ثورة 25 يناير، حيث النظام الحاكم محوره شخص الرئيس، والحكومة والأجهزة تدور حوله وتعمل وفق رؤيته، أو في أخف الرؤى نكون أمام استمرار لنفس السلطوية مع تحسينات طفيفة على وجهها، وبالتالي المخاوف من أن يكون الاستبداد الذي أسقطته الثورة لم يسقط ، إنما يعود بعد كمون ثلاث سنوات، ومحمد مرسي أول رئيس مدني منتخب هو مجرد فاصل لمدة عام للقول إن تجربة المرشح المدني الخارج من الثورة أو المرتبط بها لم تكن موفقة ولا تصلح للحالة المصرية وأن الوطن في خطر ويحتاج للبطل المنقذ القادم من المؤسسة المنضبطة الذي يحكم بقبضة قوية مع تأجيل رفاهية الحرية والديمقراطية من أجل الخبز والأمن، وبذلك يعود الوصل إلى الإرث المباركي الذي هو امتداد للجمهورية الفردية التي تأسست بعد إلغاء الملكية عقب ثورة 23 يوليو 1952. هنا نسأل: هل من أجل استمرار تعظيم دور الرئيس أن الدستور المعدل لا يجعل حزب الأغلبية أو تحالف أحزاب هي من تشكل الحكومة فورا، إنما يمنح هذا الحق أولا للرئيس ليكلف من يشاء بتشكيل الحكومة، وإذا لم تنل ثقة البرلمان، هنا يكلف الرئيس الأحزاب، بعكس دستور 2012 الذي كان يفرض على الرئيس تكليف الحزب الفائز بالأغلبية أو تحالف أحزاب بتشكيل الحكومة فورا، وهل لذلك أيضا تم توسيع صلاحيات الرئيس في هذا الدستور بخلاف دستور 2012 وعلى غير ما يزعم الزاعمون؟!. وهل من يدير البلاد فعليا بعد 3 يوليو كان يخطط ويهندس للدولة والنظام الجديد وفق رؤية جاهزة لديه هو - وبعيدا عما يُقال في الميادين والإعلام من أحلام ديمقراطية - وكانت فصول الخطة تتضمن رئيسا من طراز السيسي، وبالتالي لابد من وضع بنية نظام ديمقراطية شكلا لكنها في الجوهر تعيد تكريس السلطوية وتسمح له بالتحكم في مفاصل ذلك النظام وأن يكون هو مركزه وألا يُجابَه بمراكز سياسية تنفيذية - خاصة الحكومة - تتوازن معه ودون تغول منه عليها؟!. ونسأل أيضا : هل مصادفة أن يكون عمرو موسى هو رئيس اللجنة التي عدلت الدستور، وأن تكون اللجنة نفسها معينة وليست منتخبة ومختارة من مؤيدي 3 يوليو جميعا، وهل مصادفة أن يكون موسى هو العقل المحرك في حملة السيسي وهو أكثر من كان يروج لترشحه للرئاسة، وأن يكون هو من يصوغ البرنامج السياسي له بالاشتراك مع هيكل، وكلا الرجلين - موسى وهيكل - تربيا وعملا في ظل أنظمة سلطوية، ومع الرئيس الفرد، وكانا يدينان بالولاء له، ولم تظهر عليهما أي علامات معارضة للاستبداد، ومعارضة هيكل للسادات لأنه طرده من جنة السلطة، ومعارضته لمبارك لأنه كان يبحث عن دور ولم يحصل عليه. من متابعتي للسيسي أجد ظل عبد الناصر عنده فعلا، وهو ظل مقبول تنمويا واقتصاديا ومجتمعيا، لكن المقلق هو الظل السياسي، فالعهد الناصري لم يعرف الديمقراطية ولا الحرية، وأحاديث السيسي لاعلاقة لها حتى الآن بقضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية والكرامة، بل مثلا نجده يدعم صراحة قانون منع التظاهر، وواضح من انفعالاته في رده على من يتحدث بشأن هذا القانون أنه ضد أي مظهر من مظاهر الاحتجاج باعتبار أن ذلك يتعارض مع مشروعه غير واضح المعالم حتى الآن لبناء الوطن، وهو في إطار عملية استنهاض الهمم يريد تعطيل السياسة وألا يعلو صوت على صوت معركة التنمية ، لكن عهد عبدالناصر الديكتاتوري انتهى بهزيمة كبيرة، ووضع بائس لمصر، وجاء السادات فأتاح هامشا محدودا للحرية، وهو الذي ظل طوال عهد مبارك، لكنه لم يوسِّعه، ولم يقم بالإصلاحات السياسية الضرورية ، وبقي طيلة ثلاثة عقود من الاستقرار والمساعدات الخارجية يتحدث عن الاقتصاد حتى انتهى به المطاف إلى ثورة أطاحت به، فلم يبن وطنا ولم يحقق ديمقراطية، ولا ننسى أن ثورة يناير قامت بالأساس احتجاجا على غياب الحريات والاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان والظلم الاجتماعي. الديمقراطية هي الباب الرئيسي للتنمية، والخبز لا يجب أن يسبق الحرية لأنهما صنوان. أخشى كثيرا أن يكون السيسي يقودنا - لو فاز- إلى سلطوية جديدة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.