منذ عدة سنوات وبينما أنا عائد ذات يوم من أداء خطبة الجمعة في مسجد الرضوان بمحافظة الجيزة، هالني شئ غريب..!! وجدت أناسًا كثيرين في مقابر السيدة عائشة، وكأنهم نافرون من عرفات الله..!!
فقلت في نفسي لعل شخصًا عظيمًا مشهورًا قد مات...
ثم حدثتني نفسي: ومَنْ هذا الشخص..؟!
ثم نزلت من السيارة وسألت الناس: ما هذا..؟!
فقالوا: إنها طلعة رجب..!!
فاسترجعت شريط ذاكرتي في لحظة؛ لأبحث فيه عمَّا يُسمى بطلعة رجب، فأستعفتني الذاكرة بأنه لا يوجد، فيما تعلمته ودرسته من علوم الإسلام منذ نعومة أظفاري في الأزهر الشريف، ما يُسمى بطلعة رجب.. فتوجهتُ في التو واللحظة إلى المقابر كي أعاين ما يحدث.. فلم أجد إلا البدعَ التي لا يرتضيها الإسلام.. وجدتُ نساءً كاسياتٍ سافراتٍ شبه عارياتٍ، يلهون ويضحكون ولا يعبأن بحرمة الأموات...!
ووجدتُ أناسًا يأكلون ويشربون، ويلقون مخلفاتِ الطعامِ على القبورِ..!
ووجدتُ أطفالاً يلعبون فوق القبور ويرقصون..!
ووجدتُ أناسًا يجلسون وآخرين يتوافدون من كل مكان في القاهرة وغيرها، وكأنهم في انتظار خروج الأموات إليهم في هذا اليوم!!
فقلتُ في نَفْسِي: سبحانَ الله..!! قد كنتُ منذ دقائق أقولُ للنَّاسِ في خُطبةِ الجُمُعة: حافظوا على الإسلام.. حافظوا على تعاليمه.. فلا حياة للإسلام إلا بالإسلام.. فبقاؤنا مرهون بالمحافظة عليه.. وهنا أجد من يبتدعون ويُدْخِلونَ فيه ما ليس فيه..!!
من هنا أنادي بأعلى صوتي أيها المسلمون: إننا نحتاج إلى وقفةٍ مخلصةٍ مع النفس، لتصحيح بعض السلوكيات التي يرفضها الإسلام. فهذه الأفعال والبدع التي يفعلها بعض المصريين في هذه الأيام وهم يزورون القبور لتؤذي أهلَ القبور في قبورهم.!
قيل لعليٍّ (رضي الله عنه): ما شأنك إذا جاورت المقبرة؟ قال: إني أجدهم خير جيران.. أجدهم جيرانَ صدقٍ، يكفون الألسنةَ ويذكرون الآخرة..
فاللبيب هو الذي ينظر إلى قبور غيره، فيرى مكانه بينهم، فيستعد للحاق بهم؛ فالموتى قد انكشفت لهم حقائق الأمور، فيتمنون يومًا من العمر ليتدارك المُقَصِّرُ به تقصيره، فيتخلص من العقاب، وليستزد المُوَفَّقُ به رتبته فيتضاعف له الثواب، ففي الزيارات نفع للميت بالسلام عليه والدعاء له، وفيها عبرة للبصير، وفيها تنبيه وتذكير لأهل الغفلة..
إنَّ زيارة القبور مستحبة للتذكير والاعتبار.. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد نهى عن زيارة القبور، ثم أذن في ذلك، روى الإمام أحمد في مسنده عن علي أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُور،ِ فَزُورُوهَا وَلاَ تَقُولُوا هَجْراً) (أخرجه أحمد).
وقد علَّمَنَا رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) آدابَ زيارةِ القبور، ومنها أن نقول: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِين، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلاَحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ) (أخرجه مسلم). ومن الآداب أيضًا: التفكر والتدبر والتذكر والعظة والاعتبار والتنبه والاستعداد. وأن نسير أمامَ القبورِ على هيئة التواضع، ونُثْنِي على الميت، ونُحسن الظَّنَ به وإن كان فاسقا.. فلربما يرحمه الله تعالى بحسن ظنك به، روى البخاري بسنده عن عائشة (رضي الله عنها) أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) (أخرجه البخاري)، ومنها أن يقف الزائر مستقبلاً بوجهه الميت، وأن يُسَلِّم عليه، ويُحظر على المسلم الطواف حول القبر أو التمسح به أو تقبيله؛ فالطواف خاص بالكعبة والتقبيل خاص بالحجر الأسود. وينبغي على المسلم أن يزور القبور في سكينةٍ وخشوعٍ وتواضعٍ واعتبار، بأن يصور في قلبه الميت كيف تفرقت أجزاؤه، وكيف يبعث من قبره؟ وأنَّه على القرب سيلحق به، ويتذكر أنَّ أول ما يكلم الميتَ حفرتُهُ، فتقول له: أنا بيت الوحدة، أنا بيت الظلمة، أنا بيت الغربة، أنا بيت الدود.. هذا ما أعددتُ لك، فماذا أعددتَ لي؟!.
* المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية - عضو اتحاد كُتَّاب مصر عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.