في سنوات الجمر والنار، كان الحديث عن المصالحة الوطنية في الجزائر أمرا خارجا عن المألوف، ومن شأنه أن يُدخل من رفع صوته به في متاهات لا يُعرف مخرجُها. وقد كان مُجرّد التفوه بعبارات التصالح والتسامح حريًّا بأن يجلب لصاحبه المتاعب والمآسي، بل كان عند البعض مرادفا للخيانة والتنكر للدولة الجزائرية، تماما مثلما أصبح المحافظون الجدد في أمريكا اليوم يصرّحون بأن الديمقراطيين الأمريكيين أقل وطنية من الجمهوريين، لأن القضايا الأمنية لا تحتل المساحة الكلّية من خارطة اهتماماتهم السياسية. وشيئا فشيئا، بدأ الجميع يُدرك بأن الحل الجزائري لا يمكن أن يكون خارج حدود المصالحة الوطنية، لأن المتضرر الوحيد من الأزمة الجزائرية هي الجزائر التي فقدت أبناءها واختل توازنها وتلاشى استقرارها وكثرت جراحُها الدامية.. وبدأت هذه الفرضية تتحول إلى قناعة راسخة، بعين المنطق أو بضغط الواقع، وقال الشعب كلمته فيها بعد أن عانى طويلا صنوف الحرمان وصار يبحث عن فضاء آمن يمكّنه من استئناف حياة كريمة، لأن الأزمة الخانقة التي دخلت الجزائر في نفقها المظلم حجبت عن هذا الشعب نور الشمس وسدّت عليه الأفق.. وعندما يتحدث رئيس الحكومة أحمد أويحيى عن قوانين ميثاق السلم، ويدافع عنها كخيار ضروري لتجاوز الأزمة، وهو في ذلك يتفهّم معاناة الجميع، سواء كانوا في هذا الخندق أو ذاك، نستبشر خيرا في أن تتحول المصالحة الوطنية من قانون مكتوب إلى قناعة راسخة عند كل طبقات هذا الشعب، سيما وأن بعض وسائل الإعلام ظنّت بأن زعيم التجمع الوطني الديمقراطي لا يقف في المسار الذي زكّاه الشعب الجزائري، ولكنّه أكد أنه من منطلق المنصب الذي بُوّئه سيعمل على تكريسها في الميدان، مصححا أثناء ذلك تصريحات بعض المسئولين الذين أدلوا بتصريحات غير دقيقة عن القوانين وعن الأشخاص الذين ستشملهم. إن الأزمة التي عرفتها الجزائر غريبة ومذهلة وقاسية.. فهي غريبة لأنها تجربة لم تكن لها سوابق تضاهيها دموية في العالم الإسلامي، ولا نتمنى أن تكون لها لواحق، كما أنها مذهلة لأن المسار الذي أخذته منذ بدايتها كان خاطفا حجب عن كثيرين رؤية الحقيقة والتفكير العقلاني، وهي قاسية لأن قائمة مخلفاتها لم تترك فردا جزائريا إلا ومدّت إليه بسبب، ما بين قرابة وصداقة وجوار. إن التاريخ لا يُمحى بجرّة قلم حاقدة أو راضية، ولهذا لن ينفعنا رجوع الاستقرار والأمن في الجزائر إذا لم نستفد من دروس التجربة المُرَّة التي مررنا بها حتى لا تعترض طريقنا مرة أخرى. ومن أبرز ما استفدناه من هذه الأزمة هو أنّ على جميع الأطراف، مهما اختلفت أيديولوجياتهم وتوجهاتهم السياسية، أن يُغلّبوا مصلحة الجزائر الأم على كل مصالحهم الضيقة وأهوائهم، وأن يتعلموا كيف يجلس بعضهم إلى بعض، متحاورين لا متناحرين.. متسالمين لا متباغضين.. لأن الوطن الذي يعيش فيه الجميع لابدّ وأن يبنيَه الجميع.. والمؤمن لا يُلدغ من جُحر مرّتين المصدر : العصر