تدّلت البيوت على الأرض. راح الثائر الليبي، المسّلح ببندقية كبيرة، يُغنيّ. كان يقف في موقع قتالي مُتقدّم، على احدى الجبهات حيث الصحراء شاسعة شاسعة. كان يُغني، يُطلق بعض العيارات النارية نحو السماء، ويبتسم. بين الحين والآخر كنّا نسمع دوّي انفجارات في البعيد، ونرى على الشاشة دخاناً كثيفاً. أصوات الإنفجارات تكسر بعض الشيء السكون السائد. في الصحراء المترامية الفسيحة، رمل، ولا أقّل صوت. طلقة بين آن وآخر كانت تؤنسنا قليلاً، في بيوتنا، على أرائكنا أمام التلفزيون. وقف الشاب المسّلح خلف ساتر رملي فأمسى الخطر خافتاً. مع ذلك من الممكن أن يكون الموت رابضاً خلف ساتر رملي. إحتوى الرمل كل شيء. سيارة مسرعة بدت فارغة حتى من سائقها، لكننا سمعنا أنيناً. رفع الثائر الشاب ياقة معطفه، شدّت أصابعه ياقة المعطف التي لم تُغط الأذنين. مرّ الأنين مع مرور السيارة وبقيت الكاميرا مُسمّرة على الدخان الذي خلّفته الدواليب. انتفضت مستدركة، وأدارت عدستها الى أقصى الأمام تلاحق السيارة تنهب كثباناً لا تنتهي. في الصورة لجهة اليمين، رجال يتصايحون بنبرات سعيدة. القناة التلفزيونية تعود الى 'البروموشن' الخاص بالحدث: 'مطالبة ربي يصبّرهم وينسّيهم'. أئنّ أنا نفسي. ثم الى أزقّة تعّج بالقتلى والدم يطّن طنيناً عظيماً في أذنيّ. الثائر المسّلح يتلقى ثانية الكاميرا، كوردة. نسمعهُ مُعاوداً الغناء من حيث كان انتهى. قلت لعله يُغنّي بصوت عال لكي لايسمع الخوف، لكي لايسمع الأنين الذي يمّر مع مرور سيارات المسعفين. رمل كثير كثير، يدخل فمي ويُفسد عشائي. أحياناً يميل جسد الثائرالمسّلح من ثقل شريط الرصاص الذي يُزنّر رقبته، فيهبط يستريح على دكة رملية عالية بعض الشيء. عين الكاميرا على ثائر آخر يحفر حفرة في الأرض، مُتسعة وتكاد تكون مريحة كالقبر. كل حفرة محتملة لموت أحد ما. القذافي في استعادة، يقول انه إبن البادية، ونرى جيوشه تقتل ناس البادية. يقتل القذافي عائلات بأكملها ليس بينه وبينها أدنى معرفة. لم يفعلوا له أيّ شيء، وهو يطلق عليهم القذائف والصواريخ والرصاص، ولكي يستطيع قتل أكبر عدد منهم، لا يكفّ عن إطلاق صواريخه ومدافعه ليلاً نهاراً مستخدماً جيوشه ومرتزقته. الكاميرا الآن في مصراتة كما يقول مراسل القناة، في أحد أزقة مصراتة. جسد مُمدّد على الأرض من دون حراك ويسيل الدم من أذنه وفمه. كان له أنف يستطيع شمّ العطر. كانت له عينان تسعهما رؤية مصراتة أو زهرة. كان له فم يأكل الخبز ويستطيع النطق باسم ليبيا. هو الآن ميت ولا يستطيع شمّ العطر ولا رؤية مصراتة ولا النطق ب: ليبيا. الى الأبد. كثيرة هي الأجساد المرميّة في الأزقة، لو وُضعت فوق بعضها لكوّنت جبلاً ضخماً. جيوش ومرتزقة القذافي يقتلون ناساً مسالمين تماماً، ناساً لا يعرفونهم ولم يفعلوا لهم شيئاً على الإطلاق. يطلقون عليهم النار بضراوة. حسناً، لقد اخترع إنسان ما السلاح من أجل القتل، لذلك يستخدمه البعض، يحملونه ويصوّبونه على الناس العُزّل فيردونهم. أربعة شباب من خشب وجوع وتراب. من رمل وحنين الى الحرية، أردتهم القنابل وظهّرت الكاميرا جثثهم الخشبية ووجوههم الضائعة، حادة الزوايا في حضرة الموت. أحد الوجوه كان وحده فاغرالفم كما لو انفجر عاوياً. أفواه بابتسامات رمادية وأفواه ليست إلا هتافات حرية وحسب. الصمت والموت الضاري يجول مع الكاميرا في مصراتة. فوق البيوت يزأر الحديد. رجلٌ مُسّن يحفر بعصاه الرمل مهداً لطفل. في كل مشهد ترى مهداً. وجوه أيبستها الشمس وأجساد شابة يقصفها القذافي قصفاً كما تقصف غصن شجرة. جسد مُمدّد على محفة ترفعها أكفّ شباب غاضب. كانت للميت أصابع طويلة نحيلة تتدلى خارج المحفة. في عين الكاميرا برز رأسه مصبوغا بالدم، تتأرجح كالبندول يميناً وشمالأً، بفعل هرولة المشيعين. صبية يتحلقون في إحدى 'الزنقات' حفاة الأقدام، يحدّقون في عين الكاميرا بعيون وسّعها الخوف. بعيون وسعّها الجوع، صبية كقطع دمى. صبية كما لو نبتوا وحدهم في الصحراء. صبية من دون أمهاتهم، ما من إمرأة في زنقة لعينة تلحظها الكاميرا، أو تصطادها أعيننا في خفية عنها. القناة تعود الى عرض مقاطع من خطب القذافي، وهذه واحدة من أكثرها جنوناً، من كبريات خطبه، وتجري الآن. خطبة عالمية! يلقيها، في حين أن أحدا من شعبه لم يكن يستمع إليه، نصفهم يقاتله والنصف الآخر ينتظر أن يقاتله. ثمة أيضاً من يستغرق في النوم أثناء عرض مثل هذه الخطب المخدّرة. عندما عادت الكاميرا الى الإستديو، كان رهط المتحاورين، المتحلقين حول طاولة مستديرة، قد باشر بدوره خطبه العالمية، كما لو غياب الصورة عن ليبيا يُغيّب موتها أيضاً. نهضت الى سريري وقد أطفأت اخيراً جهاز التلفزيون. الجهاز لا تعنيه أيّ من هذه الثورات في شيء. يستجيب لك تماماً حين تطفئه. عنايه جابر القدس العربي