لعل الدور البارز الذي يميز ثورة شعب مصر في 25 يناير 2011 هي أنها أسقطت صرحا هائلا لم يكن من السهولة إسقاطه حيث كان من أشد صروح فراعنة العصر الحديث . ولعلها بهذا العمل الرائد قد سايرت منهج حركات الإصلاح والثورات العظمى في التاريخ الإنساني، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا أنها قد فاقت أغلب هذه الثورات . ومما لاشك فيه أن نجاح الثوار في إسقاط فرعون مصر قد أحاطته عناية الله كما أحاطت نهاية فرعون علي يد نبي الله موسي عليه السلام، فالعقل لا يستطيع أن يستوعب إلي الآن كيف استطاع شباب مسالمون قليلوا خبرة إسقاطه وهو المدعوم بأسباب القوة والمنعة وفي أيام معدودة إلا أن تكون إرادة الله الذي منحهم القوة والإرادة وثبت أقدامهم وتقبل شهداءهم وسخر لهم ما كان يظنه الفرعون من قوته، قاموا لينصروا الحق وهو الله فنصرهم الله . لكن قارئ التاريخ يدرك أن الحاكم لا يتحول إلي فرعون من تلقاء نفسه بل من صنع شعبه، فالحاكم الذي يستبد بالمحكومين وهم يرضون منه ذلك يكونوا من الفاسقين، وصدق المخلصون في القول " كما تكونوا يولي عليكم ". والأشد خطورة في وسائل صنع الفرعون في زماننا هي وسائل الإعلام التي احتشد فيها مع طول زمن الفساد جمع من المنافقين والمداهنين وحملة المباخر ، يتبارون في التزييف والتزيين والكذب في صفات الحاكم حتى وصل إلي التأليه مقابل منافع ذاتية ودون أن يأبهوا بقيم أو خلق فأصبحت لهم الغلبة علي زملائهم من طلاب الحقيقة . والحاكم بدوره يجزل لهم العطاء ويترك لهم مجالا واسعا للفساد والإفساد كجزء من منظومة كريهة شاركوا في صياغتها وصنعها والغريب أن هؤلاء لا يأبهون وهم يسوقون كذبهم وتزييفهم بإدراك الجميع حولهم بأسليبهم ، ويطلون علي الناس من خلال وسائلهم بقدر من التنطع والبجاحة والصفاقة ليبرروا مسلكا أو قرارا أو تصرفا ظالما واضح الظلم ، وإذا ضاق بهم الأمر أحيانا يلجأون إلي وسائل بطش الفرعون ليحتموا فيها وبها حتى ضد زملاء لهم شرفاء لم يجاروهم في ركب التزييف والنفاق . وعلي الرغم من اعتراف بعضهم بأن الوسائل التي يستولون عليها بتمكين من الفرعون هي من حصيلة ضرائب المقهورين إلا أنهم لا يأبهون أيضا بهذه الحقيقة مادام الفرعون بيده قرار استمرارهم في أماكنهم، ويسمح لهم بمزاولة وسائل النهب والسلب بدءا بمرتباتهم التي تفوق كل خيال، فالباب الفاسد مفتوح لهم ولذويهم للنهب تحت مسميات فارغة من المعني، وقضاء المصالح مسموح لهم في كل مجال لكونهم مدعومين بسلطة الطغيان، وكأنهم يخرجون لسانهم لأصحاب الحق من دافعي الضرائب ليقولوا لهم موتوا بغيظكم . والقضية حول المطالبة بمحاسبتهم ليست نابعة من حقد أو غل أو تربص، وإن كان ذلك حقيقة، بل إن الأمر يرجع في حقيقته إلي أن بقاء هؤلاء في مواقعهم أو حتى قريبين منها حتى الآن ينذر بكارثة فهم قادرون علي التلون وتغيير الجلد كالحرباء وينتظرون فرصة لصناعة فرعون جديد يتيح لهم استعادة سطوتهم، ومخزونهم المعرفي يمكنهم من صياغة منهج جديد، وهذا لا يتماشي مع أمل صناعة أمة تحاول أن تلتزم بقيم إنسانية . وأصبح الأمر يتطلب قرارا سريعا بإبعاد هؤلاء من وسائل الإعلام في التليفزيون والإذاعة والصحافة وبخاصة القومية وحتى الخاصة منها التي شهدت فرض كوادر من هؤلاء بأوامر من أمن النظام أمام إرادة التطهير واحتراما لدماء الشهداء ، وبخاصة أن ما يقوم به بعضهم ليس شيئا يتطلب مهارة خاصة بل هو في غاية البساطة وبخاصة وظيفة المذيع ، وألا يسمح لهم بالتواجد في أماكن أخرى تمكنهم من بث سمومهم أو إثارة اشمئزاز الناس بعد أن ضاق الناس بالزيف والكذب والتلون، فالمؤمن لا ينبغي أن يلدغ من جحر مرتين ، فإسقاط الفرعون لا بد أن يتلوه إسقاط هامان وجنوده لأنهم جميعا كانوا خاطئين . * مؤرخ مصري