في دورة عجيبة من دورات السياسة السودانية، بدأت العلاقات بين إرتريا و السودان تعود إلى مربع التطبيع بعد سنوات من العداء السافر.. و قد بدأت الشكل الجدي لهذا التطبيع بزيارة الرئيس أسياس أفورقي للسودان الأسبوع الماضي.. تلك الزيارة التي جاءت في وقت تقوم فيه إرتريا بلعب دور الراعي للمفاوضات بين الحكومة السودانية و فصائل المعارضة الشرقية التي تتخذ من الأراضي الإرترية منطلقاً لعملياتها ضد الحكومة السودانية. و قصة العلاقات السودانية الإرترية هي فصل في قصة علاقة السودان بجيرانه التي ظلت تتأرجح بين (التأزيم و التصالح)، فمنذ مجيئ الإنقاذ إلى سدة الحكم في يونيو 1989م و حتى اليوم و قد بدأت دورة (القطيعة و الوصال) بين السودان و جميع جيرانه- باستثناء ليبيا- ابتداءاً من مصر التي كان رئيسها هو أول الحكام العرب الذين زاروا الخرطوم بعد الانقلاب.. و أشيع أيامها أن الذي دفع الرئيس حسني مبارك إلى زيارة السودان هو اعتقاده بأن العناصر الموالية لمصر في الجيش السوداني هي التي قامت بالإنقلاب.. ثم لما تبين له خلاف ذلك و أن الترابي و أعوانه هم الذي صنعوا الأنقلاب، و أنهم يسعون إلى إشعال التوتر في مصر باستخدام ورقة الجماعات الإسلامية انقلب الود إلى صراع و عداء كان له في الإعلام مسرحاً واسعاً.. و انطلقت الألسن الساخرة تصنع النكات هنا و هناك عن هذا الصراع!!. ثم عادت المياه إلى مجاريها بعد أن احتدم الصراع الدولي حول السودان، و لما أدركت مصر أن قطيعتها مع السودان كان سبباً في غياب الدور العربي عن المشكل السوداني الأمر الذي أدى بدوره إلى تدويل القضية في أطر إقليمية و عالمية بعيدة عن المحيط العربي. آخر الجيران دخولاً في محيط العلاقات المتوترة كانت تشاد- التي جرَّت بدورها إفريقيا الوسطى لجانبها- التي أعلنت أنها في حالة حرب مع السودان بسبب دعمه للمعارضة التشادية التي تسعى للإطاحة بحكم الرئيس (دبي)!!.. و الرئيس دبي نفسه جاء إلى السلطة منطلقاً من دارفور، و على سنام الدعم الذي قدمته له حكومة الإنقاذ.. و ظل الرئيس دبي – ينتمي إلى واحدة من كبرى القبائل المشتركة بين السودان و تشاد و هي (الزغاوة)- وفياً لهذا الداعم الذي جاء به إلى السلطة، حتى تمردت قبيلته في دارفور، عندها بدأت أصابع الاتهام السوداني تتجه إليه بوصفه داعماً أساسياً للتمرد، بالإضافة إلى وقوعه في منطقة الصراع الدولي بين حليفه الفرنسي و أمريكيا التي أصبحت تحرك المعارضة لإسقاطه من أجل إقصاء النفوذ الفرنسي في المنطقة!!.. جنوباً كانت (يوغندا) موسفيني هي أقدم الدول الإفريقية عداءً للسودان في عهده الإنقاذي، و قد كان لعلاقة الصداقة التي تربط الرئيس موسفيني بالقائد جون قرنق -الذي كان يقود حركة المتمردين الجنوبيين- دورها الأساسي في تأزيم العلاقة بين السودان و يوغندا، بالإضافة إلى المخطط الدولي الداعم للمتمردين الجنوبيين الذي كان يرى في يوغندا معبراً مهما لأي تحرك عسكري يستهدف إسقاط المدن السودانية و إقامة دولة مستقلة في الجنوب!!.. و قد حدث ذلك بالفعل في منتصف التسعينات حينما تحركت قوات المتمردين مسنودة بالدبابات اليوغندية مستهدفة جوبا، حتى تم صدها في معارك الميل 40 و الميل 38.. و الأرقام تدل على المسافة من جوبا حيث دارت المعارك!!.. ظلت العلاقات مع يوغندا في حالة شد و جذب مستمر، إلى حين دخول مشكلة الجنوب أدوارها الأخيرة و استرخائها على طاولة المفاوضات لتنتهي باتفاق نيفاشا، و ينتهي معها فصل طويل من فصول العداء و التردي في العلاقات بين السودان و يوغندا.. و على طريقة يوغندا كانت إثيوبيا التي دخلت الصراع مبكراً إلى جنب المتمردين، حتى قبل مجيئ الإنقاذ.. فحينما سقطت مدينة الكرمك في العهد الديمقراطي أيام حكم الصادق المهدي، كان الجيش الإثيوبي هو الذي شق الطريق لقوات المتمردين، و كانت إثيوبيا تمارس ذلك كنوع من المعاملة بالمثل لأجل الدعم الذي ظل يقدمه السودان للفصائل الإرترية التي كانت تسعى للاستقلال آنذاك.. و حين سقطتت أسمرا، ثم تلاها سقوط نظام (مانقستو هايلي مريام) في أديس أبابا، عادت العلاقات بين البلدين إلى الاستقرار و إلى السلام، غير أن نقطة صغيرة على الأرض الحدودية بين البلدين تسمى (الفشقة) ما زالت تختزن في داخلها خميرة الانفجار.. أما إرتريا (أسياس أفورقي) فقد رعتها حكومة الإنقاذ و هي بعد ثورة، و قدمت لها الدعم حتى صارت دولة، و حاولت أن تمكن لها بعد ذلك على حساب القيم و المبادئ، فحاربت بالوكالة عنها خصومها من المعارضة الإسلامية، و حركات الجهاد في أغرب أحداث يمكن أن تقوم بها دولة ترفع شعاراً إسلامياً.. و لكن ذلك لم يشفع لها عند نظام أفورقي الذي أعدته الدوائر الغربية أصلاً ليلعب دور الكلب البوليسي في منطقة القرن الإفريقي، فسرعان من انقلب الود إلى عداء سافر، وصارت أسمرا مستقراً لكل تجمعات المعارضة و فلولها العسكرية المطرودة من إثيوبيا بعد الإطاحة بنظام هايلي مريام.. استمرت إرتريا في لعب دور الجار المشاكس حتى فقدت كروتها الرابحة بعد اتفاق السلام بين الحكومة الحركة الشعبية، و بعد سيل الاتفاقايات التي عقدها النظام مع القوى السياسية المشكلة للتجمع الديمقراطي المعارض.. و عندها حاولت إرتريا صناعة أوراق جديدة باستقطابها المعارضة في دارفور، و المعارضة في الشرق، و لكن هذه المرة ككروت حاولت أن تدخل بها لعبة الوسطاء في (مفاوضات أبوجا)، و لكن الموقف السوداني الرسمي كان حاسماً في استبعادها تماماً عن أي دور هناك.. و ! أخيراً لم يبق لها إلا ورقة معارضة الشرق التي تدور المفاوضات فيها هذه الأيام.. و هي مفاوضات لن يكون دور إرتريا فيها أكثر من مضيف لأن أوراقها كلها بيد السفارة الأمريكية. و هي تريد أن ترتب الأمر بشكل يناسب مصالحها لا مصالح الشريك الخائب. خلاصة القول إن جانباً من هذا التشكيل المعقد للعلاقات بين السودان و جيرانه، ساهمت فيه الإنقاذ بنفسها حين حاولت أن تلعب في بداية عهدها دور القوة الإقليمية القادرة على تشكيل أوضاع الدول من حولها، فساهمت في إزاحة الأنظمة في تشاد، و إثيوبيا، و كونت الدولة في إرتريا، و لكن الجانب الأكبر صنعه التدويل الذي استحوذ على كل قضايا السودان و شؤونه الداخلية.. و أصبحت لجنة الشؤون الإفريقية في الكونغرس الأمريكي- على سبيل المثال- تصنع السياسة في السودان جيرانه و تحرك الدول من حوله لاتخاذ المواقف التي تخدم مصالحها. [email protected]