هل انتهت قصة "دهب" بإفراج النائب العام المصري عنها من الحبس الاحتياطي بعد ولادتها طفلة اسمتها "حرية"؟!. صورة "دهب" فرضت نفسها على الإعلام والضمائر الحية وهى راقدة على سريرها ويدها مربوطة بقيد حديدي في ذلك السرير فلا تتمكن من احتضان رضيعتها؟!. لا، لم تنته القصة طالما أن السجون تعج بألوف المقبوض عليهم الذين يتم تمديد حبسهم من النيابة دون تقديمهم للمحاكمة. قبل الأحداث السياسية التي تشهدها مصر حاليا كان المتعارف عليه أن النيابة تقرر حبس المتهم أربعة أيام على ذمة التحقيق ثم تنظر في مصيره بعد انتهائها إما تفرج عنه أو تجدد حبسه، لكن اليوم صار قرار النيابة هو الحبس خمسة عشر يوما، كما صار روتينيا أن يتم التجديد لمدد مماثلة، وبعدها تزيد المدة إلى خمسة وأربعين يوما وهكذا يجد المقبوض عليه نفسه في حبس احتياطي لأشهر قد تطول دون أن يعرف مصيره ومتى يخرج من ذلك الكابوس. قد يكون مفهوما أن يستمر الحبس الاحتياطي للمتهمين في قضايا كبرى وخطيرة تهدد الأمن القومي بالفعل وليس بالقول أو في قضايا فساد ضخمة أو في قضايا جنائية شنيعة لكن أن يستمر طلاب وطالبات جامعيون وشباب وشابات في عمر الزهور، وكذلك سيدات وأمهات وعجائز بل حتى معاقين وتلاميذ ثانوي قيد الحبس الاحتياطي لأسابيع وشهور دون التصرف في قضاياهم إما بتقديمهم للمحاكمة النزيهة العادلة أو حفظ البلاغات والتحقيقات معهم فهذا يبدو أمرا جديدا بالنسبة لي على الأقل في إطار متابعتي للحياة السياسية في البلاد منذ نحو ثلاثة عقود ونصف العقد. وحتى لو افترضنا جدلا أن النيابة مشغولة جدا بالتحقيق مع الألوف من المقبوض عليهم ويصعب أن تنتهي تحقيقاتها في أجل قصير ما يتطلب أن يكونوا تحت إمرتها قيد الحبس فإن المزعج هو ظروف الحبس غير الإنسانية التي تتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان وتعود بنا إلى الخلف سنوات طويلة من ناحية سوء المعاملة وإهدار الكرامة بل والتعذيب البدني والنفسي حسب الرسائل التي تتسرب من المحبوسين أو ما يرد على ألسنة ذويهم خلال زياراتهم التي تتم بصعوبة وتعنت شديدين وهو ما لا يحدث مع السجناء الجنائيين ولا مع أسرهم. كيف ترتد السجون المصرية إلى الخلف بعد ما قيل عن أنها قطعت شوطا في التحسن والاستجابة للقانون وقواعد حقوق الإنسان، هل هي ردة طبيعية لهذا المرفق كما يحدث مع مرافق أخرى عديدة في مصر، أم أنها مسألة متعمدة لكون هؤلاء المحبوسون من التيار أو الفصيل الذي صار مغضوبا عليه ويُراد تلقينه درسا مؤلما؟!. استمعت إلى الحقوقي محمد زارع وهو يقول: إذا شعر الناس أنه لا مكان للعدالة فهذه دعوة صريحة للإرهاب. وقبله وبعده هناك من أنصار السلطة ومنظريها من يعلو صوتهم من التحذير من عمليات القبض العشوائي في المظاهرات وللمشاركين فيها من بيوتهم ولكل من يتم الإرشاد عنه وكأن المظاهرات أصبحت تهمة تستوجب العقوبة، وهي من أسقطت المستبد مبارك، وهي من جاءت بالسلطة الحالية إلى الحكم وهي نفسها المظاهرات التي تناشد السلطة المصريين للخروج الكثيف فيها لدعمها، أما مظاهرات الطرف المعارض فقد صارت رجسا من عمل الشيطان. هناك استهجان متصاعد أيضا من بعض حلفاء السلطة من إبقاء المقبوض عليهم في الحبس ومن سوء المعاملة خصوصا للفتيات والفتيان لأن هذا يصنع منهم قنابل غضب موقوتة ضد المجتمع لشعورهم بالظلم أو على الأقل يفقدهم الانتماء ويحولهم لمواطنين سلبيين وهو ما ينسف كل النتائج الإيجابية لثورة 25 يناير وما أعقبها من حراك وتطور سياسي طوال ثلاث سنوات. سبق وناشد الرئيس المؤقت عدلي منصور النيابة بدراسة ملفات المقبوض عليهم خصوصا من الطلاب بهدف الإفراج عمن لم يتورط منهم في أعمال عنف، وكانت هذه فرصة لتصفية هذا الملف الذي يضاعف الأزمة السياسية والمجتمعية ويظلل كثير من البيوت بالحزن والألم، كما سبقت هذه الدعوة وتلتها مناسبات عديدة للقيام بنفس الأمر ثم جاءت قصة "دهب" لتكون كاشفة لكون أن هناك مظاليم في الحبس لكن مع ذلك لا يحصل أي تقدم في هذا الاتجاه. فهل تحتاج كل سيدة في الحبس أن تكون حاملا وتضع حملها وتُكبل أيديها في السرير ليكون ذلك السلوك اللاإنساني سببا لبحث ملفها وإطلاقها. وماذا يمكن أن تفعل الفتيات غير المتزوجات للفت الأنظار إليهن وكذلك الطلاب والشباب وتلك الألوف المؤلفة القابعين في السجون في ظروف شديدة الصعوبة. ألم يكن مأمولا أن تسير مصر للأمام بعد 3 يوليو بمزيد من الحريات العامة والخاصة وتأكيد قيم حقوق الإنسان وصيانة كرامة المواطنين وتحسين أوضاعهم ليكون ذلك مبررا لكون أن ما تم في هذا اليوم كان لازما لكن عندما لا تتحسن الأوضاع وعندما يحدث قمع وتُنتهك الحريات فإن ذلك لا يخدم ما جرى من تغيير ويجعله كأنه كان مقصودا للخلاص من تيار حاكم بأي ثمن دون النظر لبناء ديمقراطية وإصلاح ما أعوج وتنفيذ ما لم يتم تنفيذه من أهداف الثورة. السلطة مؤتمنة على كل من تحكمهم وإذا كانت هناك أزمة عاصفة بينها وبين شريحة من مواطنيها فهذا لا يبرر لها تلك القسوة في التعامل، هذا خارج دولة القانون. لا نتحدث هنا عن قضايا عنف وإرهاب ثابتة بالأدلة، وحتى هؤلاء لهم حقوق بموجب القوانين المصرية قبل القوانين والمواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر. صورة "دهب" المربوطة بسريرها بقيد حديدي ورضيعتها بجوارها دون أن تتمكن من احتضانها تستفز الحجر قبل البشر، فإلى أين نحن ذاهبون في مصر؟!. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.