عندما شاهدت السيدة (دهب) وهي مقيدة في سريرها في المستشفى بعد ولادة قيصرية، تزاحمت عندي مشاعر وأفكار إضافية فوق الشعور الطبيعي بالإشمئزاز الذي يشعر به كل إنسان طبيعي مازال في قلبه ضمير، وعندما قرأت مبررات السجانين في وضع هذا القيد وأنه خشية الهرب أو الإنتحار أو إتهام التحرش (!!) تأكدت عندي هذه الخواطر.
لا شك أن كل من عنده ضمير أدرك أنه أمام مشهد خسيس، والخسة أنواع، فيها خسة يقودها عقل شرير، ومنها أنواع خارج حدود العقل، فلا يقود إليها إلا عقل غبي، لقد كنا جميعًا أمام مشهد خسيس خارج حدود العقل، لا يدانيه في الخسة إلا مشاهد بعض الأعلاميين الكبار وهم يبررون للخسة بما هو أخس منها !!: 1- قيدناها بالكلابشات خوف الهرب: سيدة قامت من عملية قيصرية لتوها تهرب من الحراسة وتترك لكم وليدتها ؟!!، وما فائدة الحراسة إن كانت لا تستطيع حراسة سيدة في فراش الولادة ؟!!.
2- قيدناها بالكلابشات خوف الإنتحار: ولماذا تنتحر ؟!!، هل من الطبيعي أن الأم التي خاضت معاناة الولادة حتى ظهرت إبنتها للنور تتركها وتنتحر، ؟! وما الذي أوحى لكم أصلًا فهذه الخزعبلات ؟!!، (لعلنا الآن نعرف كيف يفكرون) !!!.
3- قيدناها بالكلابشات حتى لا تدعي علينا بالتحرش: هل الكلابش يقيد السيدة أم يقيد المتحرش ؟!!، هل كونها مقيدة بالكلابش يمنع من يريد التحرش بها ؟!!!!، أو يمنعها لاحقًا من إتهام أي أحد -بالحق أو بالباطل - أنه تحرش بها ؟!!، تخيلوا إلى أي مدى وصل الإستخفاف بالعقول، لو أن هذا الإعلامي كان يخشى أن يعمل مشاهديه عقولهم لما قال هذا الكلام، لكنه أمن هذا إذ علم أن مشاهديه من أهل الأهواء لا يعملون عقولهم، وتلك هي الشريحة التي يخاطبها ولا يريد غيرها، وهم يماثلونه غباء وخسة، (فالحال من بعضه، والكلام مش للغريب، ولا للشعب التاني الذي مازال عنده عقل أو ضمير، ولو شيئ منهما) !!.
وهذا يقودني للمشهد الأوسع، وللخاطرة التي طافت بي، فالواقع أن مشهد (دهب) وهي مقيدة بالكلابش في سرير المستشفى بعد ولادة قيصرية هو مشهد – على خسته البشعة – ليس خارجًا عن سياق المشهد العام، فهي جزء منسجم تمامًا مع الصورة العامة، هل نفسها الصورة العامة التي تحتوي مذابح مروعة للأبرياء في قلب القاهرة، وهي نفسها الصورة العامة التي تحتوي حرق المساجد والجثامين ورفعها بالبلدوزرات، وهي ذاتها التي تحتوي الحكم على طلاب الأزهر بسبعة عشر عامًا في السجن في الوقت الذي يحكم فيه على المغتصب بخمسة عشر عامًا، وهي ذاتها التي تحتوي سجن طلاب لأن معهم مساطر عليها شعار (رابعة)، وهي ذاتها الصورة العامة التي تحتوي تعذيب بشع في السجون إعترفوا هم أنفسهم به، وهي الصورة التي تحتوي خروج نتائج الإستفتاء بحضور (عشرين مليون مواطن) رغم المقاطعة وإنعدام الحافز وعزوف الشباب الذي إعترفوا به !!.
إن (دهب) المقيدة في الفراش ليس مشهدًا خسيسًا منفصل عن سياقه، وإنما هي جزء من صورة كلية لعهد في منتهى الخسة، عهد كله باطل أوله وآخره، يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، يتبعه الغاوون، أشربوا في قلوبهم كذبه وخسته وإستخفافه بالعقول، حتى صارت قلوبهم لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، وحتى صاروا يصدقون أن سيدة خرجت لتوها من عملية قيصرية تقيد في الفراش خشية الهرب أو الإنتحار أو أن تدعي عليهم بالتحرش !!.
إن الخاطرة التي طافت بي وأن أرى صورة (دهب) مقيدة في الفراش كأنني أرى مصر هي المقيدة في الفراش بعد الولادة، كأن تلك الصورة تعبر تمامًا عن حال مصر، لقد كانت مصر حبلى بالثورة، وقبيل الوضع وأثنائه وضعت مصر قسرًا تحت وصاية العسكر، وألتفوا حول الفراش، وأنجبت مصر (جمهوريتها الثانية)، وأنجبت إستفتاءات وإنتخابات حرة، وأنجبت حريات سياسية وإعلامية لم تشهدها في تاريخها، تمامًا كما أنجبت (دهب) إبنتها (حرية)، لكن العسكر الحراس الذين كانوا يلتفون حول مصر وهي تلد مولودتها الجميلة وضعوا الكلابش في يدها وحالوا بينها وبين وليدتها، وقالوا وضعنا الكلابش في يد مصر خشية خطفها أو إنتحارها أو أن يتحرش بها أحد !!، تمامًا كما حالوا بين (دهب) وبين إبنتها (حرية).
لقد أطلقوا سراح (دهب) بعد أن ملأت أخبار الفضيحة المشرق والمغرب، وعادت (حرية) إلى أحضانها، وعسى الله سبحانه أن يفرج عن مصر كما فرج عن (دهب)، وأن تعود إليها وليدتها كما عادت (حرية)، أو أن يهبها الصبر والقوة لتلد من جديد حرية أخرى عوضًا عن الموؤودة، ومصر ولادة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.