حالة الاستقطاب الحادة في المجتمع المصري في حقبة السبعينات كان لها ما يبررها ..فمن جهة وجد أصحاب المشروع القومي أنفسهم في الخلاء بعد أن تغير الزمن وأختلف العهد وتحول رمزهم ( عبد الناصر ) إلى ما يشبه ميدان رماية أو نصب الشيطان يرجمه المؤمنون المتحمسون في شعائرالحج ..وبالتأكيد أحسوا بكثير من الحيرة وعدم الفهم وربما النقمة صوب الجماهير التي تحولت – بسرعة غير عادية – من التصفيق للمشروع العربي القومي إلى حشد الحافلات المتجهة إلى بورسعيد لشراء ( الشامبو ) و (الكمبوت ) و(التي شيرت ) في سعار مجنون . أصحاب الاتجاهات الدينية كان لهم أيضا ظروفهم الخاصة فقد خرجوا من المعتقلات الناصرية مثخنين بالجراح بعد تعرضهم لتعذيب ليس له أي مبرر في أي ملة أو عقيدة ..ولقد تساءل نجيب محفوظ على لسان أحد أبطاله في رواية الكرنك التي أدانت التعذيب الذي كان سمة السجن السياسي الناصري : هل كنا نحن النفايات الضرورية لبناء عظيم يرتفع ؟..على أن هذا العزاء نفسه أنهار بعد مصيبة عام 67. وفي كل الأحوال فإن مياه كثيرة جرت تحت الجسور منذ حقبة السبعينات وشهد المجتمع مخاضا أفرز جماعات الرفض المسلح وحركات التغيير السلمية ..وبات مهما بعد ثلاثين عاما أن يتجاوز الكل حالة الاستقطاب الحادة لأن الزمن له حركته الخاصة غير القابلة للركود والتقييد ..ومسألة تقييم عبد الناصر يجب أن تتحول من حالة أيدلوجية / دينية إلى نقاش سياسي يسمح فيه بتباين الآراء حسب موقعك الفكري وموقفك السياسي لا الديني والعقائدي . ....................... عن نفسي فأنا لا أحب العهد الناصري لكن أسبابي ليست دينية / أيدلوجية وإنما لأنه أخفق في إدارة مهام منصبه ( من وجهة نظري ) ..لا أحبه لأنه انحاز لنفسه عدة مرات ..المرة الأولى والأهم حينما لم يعتمد الديمقراطية كوسيلة لتداول الحكم رغم أن أي انتخابات ديمقراطية كانت كفيلة بانتخابه – قولا واحدا – لأنه الزعيم من المحيط للخليج ( ولا أدري كيف يستطيع ناصري – بضمير مستريح – أن يلوم الرئيس الحالي على تشبثه بالبقاء على سدة الحكم ما دام زعيمهم فعل نفس الشيء ( أرجو ألا يحدثنا أحد بحديث النيات وإلا فهم يستخدمون نفس سلاح الإسلاميين الذي ينكرونه وهو التفتيش في الضمائر والنيات فالحاصل أن عبد الناصر استمر في حكم البلاد حتى وفاته ) . لقد ضرب عبد الناصر المثال السيئ لكل حكام البلاد العربية ولو أعتمد مبدأ تداول السلطة والانتخابات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان لأجبرهم جميعا على حذو حذوه لأنه كان الزعيم والقدوة ..وإذا كان البطل القومي يحكم الشعب بالقوة العسكرية فلا ملام على من يفعل مثله . عبد الناصر فشل في إدارة صراع المشروع القومي وسمح باستدراجه في حرب (67) والشهيرة بخطة ( اصطياد الديك ) ..لا شك أنه كان زعيما قوميا يعبر عن أحلام وآمال أمته ولكنه في موقع المسئولية كان يجب عليه الاضطلاع بمسئولياته ولا يتيح لأعداء الأمة ( وأعدائه ) فرصة اصطياده لأن ما حدث لم يكن مجرد اصطياد ديك ( مهما كان سمينا وثمينا ) ولكنه ارتهان إرادة أمة ومستقبلها واحتلال لم يزل قائما للتراب العزيز. نعم ..أنا لا أحب عبد الناصر لأنه أطلق العنان لزبانية جهنم بالتنكيل والقمع والترويع لكل صاحب رأي مخالف بحجة أنه من أعداء الثورة وكأن الثورة نصا مقدسا جرت به أحكام السماء . في المقابل أفهم وجهة نظر المدافعين عن هذا العهد أنه كان زعيما قوميا منحازا للطبقات الفقيرة وللمشروع القومي وجعل لمصر مكانا رائدا وسط الدول التي قاومت المشروع الأمريكي للهيمنة على العالم ..وبدأ حركة التصنيع وأنشأ السد العالي والمصانع الكبرى والقطاع العام...ومن هؤلاء المحبين لعبد الناصر والمدافعين عنه من لا أشك لحظة في تقواهم وإيمانهم بالإسلام مثل الوالدين رحمهما الله ..وأذكر مناقشة ساخنة مع المرحومة والدتي حينما أكثرت الحديث عن الدماء الزكية التي أريقت خلال عهده فقالت لي دلني على حاكم واحد – باستثناء الخلفاء الراشدين المهديين – لم تجري الدماء في عهده أنهارا ؟ ..وأفحمني منطقها فسكت. ...................... نعم أسباب عدم قبولي النفسي لحقبة عبد الناصر موضوعية ومنطقية بالنسبة لي ..لكن غير المنطقي وغير الموضوعي – وهو ما ينبغي تجاوزه بسرعة – أن تتحول كراهية عبد الناصر لعقيدة دينية ..أو يتحول صراعه مع التيارات الإسلامية التي خاض معها حربه الضروس إلى صراع بين الإيمان والكفر ..والحق والباطل .. تجربة عبد الناصر ورموز هذه الحقبة تجربة بشرية تحتمل الباطل والصواب ( من وجهة نظري أنا أنها سيئة ) ولكن هذا شيء ووصمها بالكفر ومعاداة الإسلام شيء آخر . قد يكون مخطئا فيما فعله بالإخوان المسلمين ( وفي رأيي أنه كان مخطئا وتجاوز الحد في التنكيل والترويع) ولكنه كان صراع سلطة ولم يكن مواجهة بين الكفر والإسلام .. أو بين الباطل والحق..وأخطر ما يمكن أن يحدث أن يتحول فريق من المسلمين إلى أصحاب قداسة ..ويتم إضفاء صفة العصمة على تجربة بشرية ويتم احتكار الإسلام – فهمه أو تطبيقه والعمل به – لصالح فريق من المسلمين. الإسلام دين عالمي أشبه ما يكون بنهر النيل العظيم ..لكن روافد هذا النهر العظيم كثيرة جدا في هضبة الحبشة والبحيرات الاستوائية العظمى ..عشرات الروافد تمتزج عبر مسافة من الزمان ومساحة من المكان وتحتشد وتتلاحم لتصنع هذا النهر العظيم ليروى عطشا ويصنع حضارة ..والإسلام – كدين – روافده القرآن المحفوظ والأحاديث الشريفة وممارسة الصحابة وإجماع الأمة ..لكنه – كحضارة – صناعة بشرية روافدها كل الجماعات التي دانت بالإسلام خلال أربعة عشر قرنا عبر رقعة هائلة من الأرض هي كل العالم المعروف وقتها من الصين شرقا إلى الأندلس غربا ..كلها روافد صبت في هذا النهر العظيم وصنعت الحضارة الإسلامية وساهمت جميعا فيها .. ولا يعقل أن يتم احتكار الدين لصالح فهم مجموعة من البشر حديثا أو قديما بحيث يتم ألباس صفة القداسة عليها أو وصم خصومهم باللعنة ..فالتاريخ يتجاوز هذا كله كما يتجاوز النهر العظيم العوائق والمنحنيات ليسير قدما إلى الأمام حتى لو اضطر أحيانا للالتفاف. نعم ..نحن في حاجة لقبول ثقافة الاختلاف ..وننتظر من أصحاب الاتجاه الديني أن يضربوا لنا المثل في قبول الآخر ويحتسبوا عند الله تعالى ما تعرضوا له من إيذاء لم يكونوا يستحقونه أبدا ولكن تلك هي ضريبة أصحاب الرسالات ينهض بها من كان يرجو الله واليوم والآخر . [email protected]