لو أننا قمنا بجمع وتحليل كل ما كتب فى الأربعين عاماً الماضية عن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لاكتشفنا قدراً هائلاً من اختلاف الرأى يبلغ أحياناً درجة من التناقض والتباين يصعب فهمها، وإذا اعتبرنا أن الفترة الزمنية للجيل الواحد تغطى عشرين عاماً فمعنى ذلك أن هناك جيلين تاليين على وفاة عبدالناصر كانا ضحية لقدر كبير من الحيرة والالتباس فى تقييم شخصية الرجل الذى وصف دائماً بالزعيم.. السؤال الآن هو هل كانت حيرة العرب وتناقضهم حول تقييم شخصية جمال عبدالناصر، بسبب شخصية الرجل نفسه، أم بسبب العقلية العربية- والمصرية على وجه الخصوص- التى ما زالت ترى فى إصرار غريب أن تقييم الزعماء السياسيين لا يستوعب سوى الرفض المطلق أو التأييد الكامل؟ لماذا لم ندرك بعد أنه ما بين هذين الموقفين الحديين والحادين توجد مساحات أخرى للتقييم، كانت تتيح لنا بسهولة ويسر رصد إيجابيات الرجل كما سلبياته، دون أن نقع بالضرورة فى شرك شيطنة الشخص أو الدروشة به؟ الواقع أنه بعد أربعين عاماً لم تعد ثمة أسرار ولا حقائق لم يكشف عنها بعد فى شخصية عبدالناصر أو مواقفه السياسية.. لكن ما زالت هناك تعقيدات وطلاسم فى فهم شخصية المجتمع المصرى، وربما العربى بصفة عامة، ولربما يكون بوسعنا اليوم أن نضع يدنا على مجموعة من الملاحظات التى يكشف عنها الوعى والسلوك العربيان وهى: أولاً- إن المجتمع المصرى لم يصل حتى اليوم إلى درجة من التوافق المجتمعى العام حول شخصية جمال عبدالناصر، يشبه ما حظى به زعماء آخرون معاصرون له فى بلدانهم، مثل شارل ديجول فى فرنسا ونهرو فى الهند والملك فيصل فى السعودية، فهؤلاء زعماء قد يختلف الرأى فى مجتمعاتهم حول بعض مواقفهم السياسية، لكن مجمل دورهم التاريخى لم يتعرض لحملات التشكيك والانتقاص من خلال حملات منظمة سياسية وإعلامية كالتى تعرض لها جمال عبدالناصر، لا سيما فى عهد الرئيس السابق أنور السادات.. ولعلّ فكرة العهد البائد تبدو سلوكاً عربياً ومصرياً بامتياز، حيث يبدأ كل عهد جديد بالتنكر للعهد السابق عليه فى ظل مجتمع عربى ما زال يغلب عليه الطابع الأبوى وليس المؤسساتى، قد يختلف هذا التنكر فى أشكاله أو ذكائه أو درجة حدّته، لكن يظل التنكر لكل من هو سابق طقساً من الطقوس الاجتماعية والثقافية، التى يتقرب بها المصريون إلى كل وافد جديد! ثانياً- إن شخصية عبدالناصر الكاريزمية وتجسيده لقيم الكرامة والتحرر والاستقلال الوطنى قد صادفت هوى شعبياً ورغبة دفينة فى الشخصية المصرية، التى تهفو دائماً للبحث عن البطل والملهم، وقد تلامست الصفتان فى لحظة استثنائية من تاريخ مصر.. لكن هذا التلاقى الوجدانى الصادق فى ذاته قد أنتج، لأسباب عديدة ومعقدة، ظاهرتين سلبيتين لكل من طرفيه، فالزعيم-البشر- ازداد انفراداً بالسلطة وشكوكاً فى الرأى المخالف، ولم لا وقد وجد تأييداً شعبياً جارفاً قلّ أن يحظى به حاكم آخر؟ أما الشعب فقد بدا سلبياً مستكيناً يوثر أن يعهد بشؤونه إلى الغير، وكأنه يستريح بذلك من تحمل تبعات ومشاق ممارسة الحق فى التعبير عن رأيه. هذه خصيصة لازمت المجتمع المصرى فى الكثير من مراحل تاريخه حتى اليوم. كان عبدالناصر، حاكماً بشراً، ناضل من أجل الفقراء وتحلى-وهذا هو الأهم- بقيمهم وزهدهم وبساطتهم، فنسى الفقراء أو كادوا ينسون أنه بشر، ورأوا فيه هم ونخبتهم ما يشبه النبىّ صاحب الرسالة، ولأن الأنبياء لا يخطئون فقد كان المصريون ونخبتهم مستعدين لأن يروا فى عبدالناصر ثائراً نبياً لا يخطئ، بل إن شاعراً مثل نزار قبانى أبكى العرب وهو يرثى عبدالناصر منشداً «قتلناك يا آخر الأنبياء»، صحيح أن الشعر ليس تقييماً علمياً لكن الشعر كاشف عن أبعد المشاعر عمقاً فى نفوس البشر، و إذا اعتبرنا أن الخطأ الأكبر لعبدالناصر كان ممارسته الديكتاتورية، أحياناً، فهذا خطأ يبدو فى التاريخ العربى كله أقرب إلى السمة المنطقية لحكام يشبهون مجتمعاتهم، ويحملون خصالها وعقدها وغرائزها! الديكتاتورية وما يشتق منها من صفات التسلط والاستئثار والقهر تبدو رذيلة سياسية فى العالم المتقدم، لكنها ناموس اجتماعى فى العالم العربى، ولهذا فإن الغربيين يناقشون الديكتاتورية فى باب علم السياسة أما فى العالم العربى فالأوجب مناقشتها من باب علم الاجتماع! ثالثاً- إن جمال عبدالناصر، وبعد أربعين عاماً من رحيله، ما زال يحظى بشعبية كبيرة فى العالم العربى، وما زال العرب يتعلقون به ويهفون إليه بصورة لا تخطئها العين، لا سيما فى الملمّات السياسية والأحداث التى يشعر فيها العرب بامتهان كرامتهم القومية، والملاحظ من هذه الزاوية أن الشعبية التى يحظى بها عبدالناصر لدى عموم العرب تتجاوز بكثير شعبيته داخل مصر، خصوصاً فى أوساط النخبة المصرية، وهذه ظاهرة تستدعى التساؤل: لماذا يحب العرب غير المصريين عبدالناصر بأكثر مما يحبه المصريون أنفسهم؟ قد يعتقد البعض أن العرب لم يروا فى عبدالناصر سوى الأحلام والتطلعات، التى لامس من خلالها مشاعرهم القومية، بينما عاش المصريون فى الحقبة الناصرية مرحلة من القهر السياسى أودى ببعضهم إلى السجون والمعتقلات لمجرد الاختلاف فى الرأى، لكن ما عاناه المصريون من هذه الناحية لم يكن حكراً على الحقبة الناصرية وحدها. لكن الملاحظ أن كثيرين ممن عانوا القهر السياسى لم يتغير إيمانهم بجمال عبدالناصر، وهذه ملاحظة تستحق التوقف والانتباه، فهل كانت الناس تشعر بصدق جمال عبدالناصر وبعدالة المبادئ والقيم التى سعى لتحقيقها، ولهذا دفعت صابرة راضية من حريتها وأمنها ثمناً لنبل القضية التى آمنت بها؟ كيف أن الناصريين الحقيقيين الأحرار هم أكثر من عانوا فى زمن عبدالناصر فلم تتبدل رغم ذلك مواقفهم، بينما الذين ظفروا بالمناصب والمكاسب سرعان ما تبدّلوا وتغيروا؟ خلاصة الأمر أن الناس لم تحكم على جمال عبدالناصر ولا على الثورة فى ذاتها بقدر ما عبرت عن مواقفها وانتماءاتها السابقة. إنه مرة أخرى التقييم الشخصانى للتاريخ فى بلاد العرب! فقد وقف مع الثورة من انتفع بها ووقف ضدها من تضرر منها، قد يبدو ذلك أمراً واقعياً لكنه يعنى أن مناط تقييم الثورة لم يكن على مستوى المبادئ بل المصالح!! ولعل هذا ما يفسر لنا أن معظم الأثرياء، إلا قليلاً، قد انتقدوا الثورة.. بينما انحاز لها كل الفقراء إلا قليلاً!! وهو أيضاً ما يوضح لنا كيف أن الليبراليين قد ناصبوا الثورة العداء، بينما أيدها معظم الاشتراكيين، والقوميون حملوها على الأعناق، وتوجس منها دعاة القطرية والفرعونية!! طبيعى إذن أن نكتشف أننا لم نكن موضوعيين تماماً فى نظرتنا للثورة ولعبدالناصر بقدر ما كشفت الثورة بدورها عن انتماءاتنا السابقة!! [email protected]